لكن لنقصر حديثنا على «الأدب» حتى لا يتشعب بين أيدينا بغير طائل ؛ فالأدب في أي شكل من أشكاله (الشعر، والقصة، والمسرحية، والمقالة حين تكون مقالة أدبية) أوله إنسان وآخره إنسان، لكن هذا الإنسان إذا كان سلوكه يظهر أمام الأبصار، فيسهل وصفه في الكتابة الأدبية؛ فإن وراء السلوك الظاهر دوافع تخفي عن الأعين، إلا عيني الأديب. ومعنى ذلك أن الوقوف عند الجانب الظاهر هو وقوف عند «السطح» والتماس ما وراءه في خفاء النفوس هو غوص إلى «العمق».
وواضح أن الأدب إذا كان من شأنه أن يغير قارئيه، فإنما يجيء هذا التغيير بكشفه عن الخبيء من أغوار النفس؛ فحياة القوم لا تتغير إلا إذا تغير ما بأنفسهم من الداخل، كما ينضبط سير عقارب الساعة بضبط تروسها.
والذي نفهمه هنا هو أن أدباء هذا الجبل، لا يكتبون ما من شأنه أن يغير أحدا، أستغفر الله، بل إنه يشد إلى الوراء؛ لأنهم لا يمسون بأقلامهم أوتار القلوب؛ لأنهم (وهذه نقطة لها أهميتها البالغة) لا يكادون يجعلون لأدبهم «شكلا» (أعني الفورم) وإذا خلا الإبداع الأدبي من شكله فهو لا شيء.
أقول ذلك وفي ذهني «الفورم» بأدق معانيه، والذي هو الطريقة التي ترتب بها أجزاء القطعة الأدبية، ترتيبا يخطو به القارئ خطوة خطوة إلى أن يصل إلى النتيجة المطلوب رسوخها في النفس. شكل القطعة الأدبية هو نفسه «فكرتها» وفكرتها هي شكلها. فإذا قلنا إن أدباء هذا الجيل تفوتهم طريقة البناء المؤدية إلى التأثير المطلوب، فقد قلنا بالتالي إن أدبهم يخلو من «الفكرة» كأنما هو لغو بغير مضمون. •••
لسنا نريد للشاعر أو للكاتب أن يعرض علينا «عملية مجردة» لأن هذه مجالها العلوم، لكننا نريد لكل إنتاج أدبي ذي قيمة أن يجسد أفكارا عامة في صور فردية جزئية لنراها بأعيننا فنتأثر. فمسرحية «أوديب» - مثلا - جسدت نظرية التحليل النفسي في موقف متعين، وبهذا فهي تبلغ من نفس القارئ أو المشاهد، مبلغا أعمق، مما تبلغه النظرية العلمية المقابلة لها عند الدارسين.
ومن جهة أخرى لا نريد للأديب أن يجعل الأفكار التي يجسدها في أدبه، عائمة على السطح حتى لا ينقلب الأدب إلى وعظ أخلاقي فينعدم تأثيره. إن معظم ما يكتبه كتابنا اليوم، وأعني الكتابة الأدبية، لا يثير في الناقد شهوة النقد؛ إذ ماذا يكون عمل الناقد إلا أن يقرأ لنا القطعة الأدبية من «أعماقها» التي تخفى عادة عن أعين عامة القراء، فإذا كان المكتوب سطحا تراه كل عين وليس له أغوار تحتاج إلى ناقد فاحص، ففيم يقوم النقد الأدبي؟
كثيرا ما أسأل نفسي: لقد بدأت نهضة الأمة العربية منذ أول القرن التاسع عشر؛ أي إنها بدأت قبل أن تبدأ النهضة في اليابان بنحو سبعين عاما، فلماذا يلكأ بها السير؟ ويكون جوابي كلما ألقيت السؤال هو: علتنا هي وقوفنا عند الأسطح، ولا نغوص إلى الأعماق.
علموهم تذوق الفن
كان أفلاطون في تصوره للدولة المثلى، قد حذف الفن من مقومات الدولة كما تصورها. وأظنه قد قصر مفهوم «الفن» في سياق حديثه على الشعر والتصوير. وكان مبرر الحذف عنده هو أن الشاعر أو المصور إنما يقدم لنا تصويرا لشيء ما، وإذا كان ذلك كذلك، فإن الشيء نفسه أقرب إلى الصدق من صورته المرسومة له في كلمات الشاعر أو في خطوط المصور وألوانه، فما حاجتنا - إذن - إلى ذلك التصوير ما دام الشيء المصور قائما بين أيدينا وأمام أبصارنا؟ أيهما أولى بالنظر: شجرة الورد في بستانها، أم تصوير لتلك الشجرة بقلم الشاعر أو بريشة الرسام؟
على أن أفلاطون لم يكن ليرضى للإنسان أن يلتمس المعرفة الصحيحة في الأشياء نفسها، بل أراد له - إذا أراد معرفة صحيحة بشيء ما - أن يجاوز ذلك الشيء المحسوس إلى فكرته المجردة، كأن يجاوز شجرة الورد المحسوسة، إلى تعريفها العقلي. وإنه لتعريف يجاوز بدوره عقول أفراد الناس؛ لأنه إذا فني هؤلاء الناس جميعا، بقي التعريف العقلي لشجرة الورد، أو قل بقيت فكرتها، أو بقي نموذجها في عالم المعقولات؛ بحيث يخلقها الخالق مرة أخرى إذا شاء، كما خلقها أول مرة.
अज्ञात पृष्ठ