أغلب الظن أن صاحب القلم - في حالات كثيرة جدا - يسير بقلمه في هذا الاتجاه أو ذلك، تبعا لما قد حرم منه أو أغدق عليه من مكانة في عصره. ولعل نابليون لم يبعد كثيرا عن الصواب حين قال: «إن الكبرياء الجريحة - كبرياء أصحاب الفكر الذين مهدوا بأقلامهم لقيام الثورة الفرنسية - هي التي صنعت تلك الثورة، ولو وجد هؤلاء من المكانة لأنفسهم ما كانوا يشتهون، لدارت أقلامهم على وجه آخر.» وفي هذا الصدد نفسه يقول «ثوروا»: «عقيدتي هي أن ما يحزن أصحاب القلم ليس هو عطفهم على المظلوم والمحروم، بقدر ما هو ألم شخصي يحز في نفوسهم من إهمال الناس لهم، ولو وصفوهم حيث يريدون لأنفسهم، وأغدقوا عليهم العطاء، لم يعد المظلوم في أعينهم مظلوما ولا المحروم محروما.»
ونصيحتي للقارئ إذا ما تناول كتابا يحمل في جوفه فكرة لصاحبه، قبل أن يسأل: من كتب هذا الكتاب وماذا كتب؟ أن يسأل: لماذا كتب ما قد كتب؟
كواهل العظماء
للعظماء كواهل قوية عريضة تتحمل تبعات أعمالهم العظيمة. إن صاحب الرسالة العظيمة الذي يجهر في قومه بالحق - أو بما يعتقد أنه الحق - قمين أن يثير الكراهية والغضب في نفوس أصحاب السلطان الذين يريدون لسلطانهم الدوام والثبات؛ ولهذا قل أن يمضي صاحب الرسالة العظيمة في نشر رسالته دون أن يتعقبه المتعقبون بالوقيعة والأذى، حتى ينتهي أمره إلى محاكمة تعرف نتيجتها قبل البدء فيها، وعندئذ يلمع جوهره النفيس، بدل أن تنطفئ شعلته كما أريد لها أن تنطفئ. ودونك محاكمات العظماء فاقرأها لتسمع بأذنيك ما ينطق به هؤلاء في لحظات محنتهم:
كان غاندي يعتنق مذهبا يحرم قتل الكائنات الحية بكافة أنواعها؛ ولذلك فعندما وجه الدعوة إلى بني وطنه أن يقفوا من الحكومة الهندية «الإنجليزية» موقف العصيان المدني، كان حريصا كل الحرص ألا يلجأ الناس في عصيانهم إلى العنف وسفك الدماء، ولكن الناس عندما استجابوا لدعوته لم يستطيعوا التحكم في أنفسهم على النحو الذي أراده لهم زعيمهم، ففتكوا وذبحوا وأراقوا من الدماء ما أراقوا ... ورغم براءة غاندي الواضحة، ألقي عليه القبض، ووجهت إليه تهمة إثارة الناس، حتى اقترفوا ما اقترفوا من ألوان العنف في ثورة 1921م، فبماذا أجاب غاندي؟ هل حاول التنصل والتماس النجاة؟ كلا، بل حمل التبعة على كاهله القوي بروحه وإن لم يكن القوي بالعظم والعضل، وأجاب النائب العام بعبارة تستحق الخلود؛ إذ قال: «إنني أؤيد النائب العام العلامة فيما ألقاه على كتفي من لوم بمناسبة الحوادث التي وقعت في بمباي ومدارس وشاروي وشورا؛ لأنني كلما فكرت في هذه الحوادث تفكيرا عميقا وتدبرت أمرها ليلة بعد ليلة، تبين لي أنه محال علي التخلي عن هذه الجرائم الشنعاء. إن النائب العام العلامة على حق لا شبهة فيه حين يقول إنني باعتباري رجلا مسئولا، وباعتباري كذلك رجلا قد ظفر بقسط من التعليم لا بأس به، كان ينبغي علي أن أعرف النتائج التي تترتب على كل فعل من أفعالي. نعم فلقد كنت أعلم أنني ألعب بالنار، وأقدمت على المغامرة، ولو أطلق سراحي لأعدت من جديد ما فعلته ...
لقد أردت أن أتجنب العنف، وما زلت أريد اجتناب العنف؛ فاجتناب العنف هو المادة الأولى في قائمة إيماني، وهو كذلك المادة الأخيرة من مواد عقيدتي، لكن لم يكن لي بد من الاختيار، فإما أن أخضع لنظام الحكم الذي هو في رأيي قد ألحق ببلادي ضررا يستحيل إصلاحه، وإما أن أتعرض للخطر الناشئ عن ثورة بني وطني ثورة غاضبة هوجاء ينفجر بركانها إذا ما عرفوا حقيقة الأمر من بين شفتي. إني لأعلم أن بني وطني قد جاوزوا حدود المعقول أحيانا، وإني لآسف لهذا أسفا شديدا؛ ولذلك فإني أقف هنا لأتقبل - لا أخف ما تفرضونه من عقوبة، بل لأتقبل أقسى ما تنزلونه بي من عقاب - إنني لا أطلب الرحمة، ولا أتوسل إليكم أن تخففوا عني العقاب؛ فقد فعلت ما يبدو لي أنه أسمى ما يجب على المواطن أداؤه.»
وأحسب قارئي على علم بموقف سقراط في محاكمته التي انتهت بموته؛ إذ طلب إليه أن يسترحم قضاته، لكنه لم يزد إلا إصرارا على رسالته، وإلا إباء بأن يقف من القضاة موقف الضعيف الضارع، وقال فيما قاله:
إذا كان الرجل خيرا في ناحية من نواحيه، فلا ينبغي له أن يتدبر أمر حياته أو موته، ولا يجوز له أن يهتم إلا بأمر واحد، وذلك أن يرى هل هو فيما يعمل مخطئ أو مصيب، وهل يقدم في حياته خيرا أو يقدم شرا. أترى - إذن - أن الأبطال الذين سقطوا في طروادة لم يحسنوا صنعا؟ فذلك ابن ثيتسي الذي استصغر الخطر وازدراه حينما قرنه بما يثلم الشرف.
حرمة الحياة الخاصة
إنني كلما قرأت شيئا في صحيفة سيارة يكشف عن الجوانب الخاصة من حياة إنسان، عجبت أن يكون هذا حقا مشروعا لأصحاب الصحف، فلا يكون في القانون ما يردعهم، كأنما الأمر من التوافه التي لا تستحق عناية القانون! نعم إني لا أنكر أن في الإنسان رغبة طبيعية تحفزه إلى استطلاع الجوانب الخاصة من حياة الناس، ومن هنا كان لما ينشر في هذا أحسن الوقع عند القراء، ولكن في الإنسان رغبة طبيعية كذلك تحفزه إلى السرقة والقتل، ولولا ذلك لما جاءت الشرائع والقوانين تنهى عنهما. وإذن فليست الرغبة الطبيعية عند القارئ بالمبرر الكافي لضرورة إشباعها.
अज्ञात पृष्ठ