ولقد انتضى الله ﷿ لإعزاز الدين، وارتضى لتدبير الدنيا من يضاعف جزاءه يوم الدين؛ الملك السيّد الأجل الأفضل، أمير الجيوش، سيف الإسلام، ناصر الإمام، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، الذي استظهرت المملكة بعزماته على كل مخالف ومعاد، وأبت مفاخره كل مكرر من الصفات ومعاد، وحفظ معاقد الملة من أن تختل أو تحل، وصان محظورات الشريعة من أن تباح أو تحل، وساس أمور الكافة ببأسه الشديد ورأيه الصليب، وصرف عالي همته إلى إعزاز التوحيد وإذلال الصليب، وأمضى في حياطة الإيمان مرهفا ماضي الغرار، وأسهر جفنه في مصالح الأمة فما يطعم من الكرى غير الغرار، فالإجماع واقع على أنه أشرف من رفع للمجد علما وراية، والاتفاق حاصل في كونه أفضل من وقف على الخيرات نظره ورأيه، ولهذا نجح قصد راجيه وسائله، وأصبح لديه تأميل مؤمله من أعظم وسائله، فلا زال باب اعتزامه في فل الخطوب غير مرتج، وزند عطائه غير كاب بعنان ولا مرتج.
فصل
فتدبيره أبرز الدولة الفاطمية في أجمل المعارض، وجعل آيات مجدها متلوة بلسان المخالف والمعارض، لأنه شيد مبانيها باصطفاء الأنجاد، وحمى الدين وقد قعد الملوك عن النصرة له والإنجاد، وانتصب لصالح الأمة يستمد أسبابها ويجتلبها، واجتهد في منافع الكافة يستدر أخلافها ويحتلبها، فالأفهام متواطئة على أن هدايته أرشدت الألباب الحائرة، والأحوال ناطقة بأن معدلته أذهبت الأحكام الجائرة، فالله يخلد نظره ما تتابع ليلة ويوم، ويشيد مجده ما تعاقب على الأجفان يقظة ونوم.
فصل
إن الله عضد الخلافة منه بكفيل تكفلت بحياطة الملة صرائمه، وخليل تجردت لإيالة الإسلام صوارمه، وحفيظ وضحت مفاخره وضوح ضياء الشمس، وحسيب اجتمع له فضيلتا كرم الأصل وشرف النفس، ومليك أوجبت خلاله تشوف الغد، وقضت بتلهف الأمس، ولذاك آتاه الله من الخصائص التي فاضل بها عظماء الأرض طرا، وحباه بالمآثر التي طال بها ملوك العصر شما كريمة وأفعالا غرا.
فصل
وكيف يبلغ الحمد مدى هممه، أو يؤدي القول فحوى شيمه، وقد بدد جموع الضلال ذباب قواضبه القاضية، وسرد أسود الأقيال تغالب أسنته الضارية، وأورد دماء الأعداء حوائم سهامه الظامية، واستنطق عصره مفتخرا على الأيام الخالية، بأيامه الحالية، فبكفالته اغتباط الدولة وابتهاجها، وإلى مكارمه معرج الآمال ومعاجها، وبتدبيراته الميمونة ظهر برهان الدولة الآمرية وثبت احتجاجها، ولا خلاف أن أعطاف مجده لائقة بها ملابس التعظيم، وأن ملوك الأرض قد أقرت له بفضيلة التقديم، وأنه قد حاز تالد الفخر وطارفه، فلم يحتج قديمه إلى حديث، ولم يفتقر حديثه إلى قديم.
فصل مما كتب به عند مقامه بالفرما لتقرير أمر الجهاد وتدبيره، والعمل بما يؤدي إلى هلاك العدو وتدميره
وأمير المؤمنين يقول مخبرا، ويورد مقتصدا مقتصرا. إن المنة به أكبر من أن يوفى حقها باعتداد، وأعظم من أن يؤدى فرضها بمبالغة في الشكر واجتهاد، وأسنى من أن يحيط بها وصف أو شرح، وأعلى من أن يناهضها تقريظ أو مدح، إلا أن البلغة من أوصاف مفاخره واللمعة من فضائله الباهرة ومآثره؛ أنه ملك يؤمن الخائف، ويقهر الحائف، ويبالغ في شكر العطاء والجود، ولا يتعدى الحد في إقامة الحدود، فحلال الدماء مطلول بشفار مشرفيته، وحرامها مصون بدينه الخالص وتقيته، يعمل بما يقضي بجذل الإسلام وابتهاجه، ويضمن الطمأنينة والسكون في حركته وانزعاجه، وينهض لنصرة الدين وقد صاحبته الميامن والسعود، ويفارق وطأته فراق السيف غمده يجلي ظلم الحوادث ويعود، ولذاك أعمل ركابه لتجهيز العساكر المؤيدة، والأساطيل المظفرة، واستسهل البعد عن مقر أمير المؤمنين في جنب ما يرجوه من إبادة أعدائه الكفرة، لأن عملهم ينهوضه جيش ينفذ من الرعب، ولأن بعده الآن مؤذن - بمشيئة الله - بدوام الدنو والقرب، فكم استخرجت عزمته الدعة من النصب، وكم استنتجت همته الراحة من التعب، فلا زالت أقطار المملكة محصنة بقواضي قواضبه، والخطوب مخاطبة عن حوزتها بألسنة كتائبه.
فإذا كان هذا جزءا من ثناء أمير المؤمنين، ويسيرا مما تداوله الخلفاء على متقادم السنين؛ فأين يقع منه اجتهاد مماليكه في إحسان ذكره؟ وكيف يطمع أحد منهم بواجب حمد الله على تمليكه عليهم وشكره؟
1 / 45