وإذا كان شوبنهور في النص السابق قد حدد ماهية الفن بوجه عام، فإنه يجعل للفن الموسيقي مكانة خاصة، ويوضح طبيعته في نصوص كثيرة من أهمها: ... إن في إمكاننا أن ننظر إلى عالم الظواهر أو الطبيعة وإلى الموسيقى على أنهما تعبيران مختلفان عن شيء واحد؛ فالموسيقى - إذا ما نظر إليها على أنها تعبير عن العالم - تغدو، بأكمل معاني الكلمة، لغة عالمية ترتبط بالتصورات الشاملة، مثلما ترتبط هذه الأشياء الجزئية، ومع ذلك فإن طابع الشمول فيها ليس ذلك الشمول الفارغ الناتج عن التجريد، وإنما هو من نوع مختلف تماما؛ فهو يقترن بتميز دقيق لا لبس فيه ولا غموض. والموسيقى في هذا أشبه بالأشكال الهندسية والأعداد، التي هي صور كلية لجميع الموضوعات الممكنة للتجربة، تنطبق على هذه الموضوعات جميعا بطريقة أولية. ولكنها مع ذلك ليست مجردة، بل هي قابلة للإدراك الحسي، وهي محددة بكل دقة. وهكذا فإن كل جهد تبذله الإرادة، وكل سوراتها وتجلياتها، وكل الحوادث التي تقع داخل الإنسان ذاته، والتي تدرجها ملكته العاقلة ضمن تلك الفئة الواسعة السلبية، فئة المشاعر، ويمكن أن يعبر عنها ذلك العدد اللامتناهي من الألحان الممكنة. ولكن ذلك التعبير يكون له دائما شمول الصورة الخالصة، دون أية مادة، ويكون دائما متعلقا بما يوجد في ذاته لا بالمظهر؛ أي بأعمق أغوار النفس من غير الجسم. هذه العلاقة الوثيقة للموسيقى بالطبيعة الحقة للأشياء جميعا تفسر لنا أيضا حقيقة هامة، هي أنه عندما تعزف موسيقى ملائمة لأي منظر أو فعل أو حادث أو بيئة، فإنها تبدو وكأنها تكشف لنا عن أدق معانيه خفاء، وتظهر وكأنها أفضل شرح وأدق تمييز له. وفضلا عن ذلك، فإنه يبدو للإنسان الذي ترك سيمفونية تتغلغل في نفسه بلا قيود، أنه قد رأى كل الحوادث الممكنة في الحياة وفي العالم تمر أمامه داخل ذاته. ومع ذلك فلو أمعن التفكير في الأمر لما وجد أي تشابه بين قطعة الموسيقى وبين الأشياء التي مرت بذهنه؛ ذلك لأن الموسيقى - كما قلنا - تختلف عن كل الفنون الأخرى في أنها لا تصور الظاهرة، أو بتعبير أدق، لا تصور موضوعية الإرادة المطابقة، إنما هي تصوير مباشر للإرادة ذاتها، وبالتالي فهي تعبر عن الماهية الميتافيزيقية لكل ما يوجد في عالم الأشياء، وعن الشيء في ذاته بالنسبة إلى كل ظاهرة. وهكذا يمكننا أن نسمي العالم موسيقى متجسدة مثلما يمكننا أن نسميه إرادة متجسدة. (الكتاب الثالث، القسم 52) (4-4) الطريق إلى الخلاص
في مجموعة النصوص التي أدرجت تحت الفئة «ثالثا»، حدد شوبنهور ماهية الفن، وأوضح في الوقت ذاته طريقا مؤقتا إلى خلاص النفس من قيود الإرادة، وهو في النص الآتي يوضح الطريق النهائي لخلاص الإنسان، وهو إماتة إرادة الحياة، والتخلص من مبدأ الفردية في ذاته:
لا يوجد إلا خطأ فطري واحد، وهو الفكرة القائلة: إننا نوجد لنكون سعداء؛ فما نحن إلا إرادة للحياة، ونحن لا نفهم من السعادة إلا أنها الإرضاء المتعاقب لإرادتنا.
وطالما ظللنا واقعين في هذا الخطأ الفطري، الذي يزداد رسوخا فينا بفضل المعتقدات التفاؤلية، فإن العالم يبدو لنا حافلا بالمتناقضات؛ ذلك لأننا نشعر حتما في كل خطوة. وفي كل الأشياء كبيرها وصغيرها، بأن العالم والحياة لن ينظما أبدا بقصد ضمان حياة سعيدة لنا ... وفضلا عن ذلك، فإن كل يوم مر في حياتنا حتى الآن قد علمنا أنه حتى في الحالات التي تتحقق فيها أفراح ولذات، تكون هذه في ذاتها خداعة، ولا تؤدي إلى النتائج التي تعدنا بها، ولا ترضي قلوبنا، فضلا عن أن الحصول عليها يقترن على الأقل بالمرارة التي يبعثها ما يرتبط بها أو ما ينبثق عنها من الآلام والمنغصات. أما الآلام والأحزان فتثبت أنها حقيقية إلى أبعد حد، وكثيرا ما تتجاوز كل ما نتوقعه. وهكذا فإن كل ما في الحياة قد رسم بحيث يؤدي بنا إلى الرجوع عن هذا الخطأ الفطري، وإلى إقناعنا بأن القصد من وجودنا هو ألا نكون سعداء. أما من تخلص بطريقة ما من الخطأ الأولي الكامن فينا ومن ذل التزييف الأول في وجودنا، فسرعان ما يرى كل شيء في ضوء مخالف، ويجد أن هذا العالم متفق مع إدراكه، وإن لم يكن متفقا مع رغباته؛ فلا تعود مظاهر البؤس - مهما كان نوعها أو مقدارها - تثير فيه دهشة، وإن كانت تبعث فيه الألم، إذ إنه أدرك أن الألم والشقاء هما ذاتهما اللذان يحققان الغاية الصحيحة للحياة، ألا وهي انصراف الإرادة عنها ...
والذي يحدث عادة هو أن القدر يمر على نحو حاسم بذهن الإنسان وهو في عنفوان رغباته وأمانيه، وعندئذ تتحول حياته تحولا أساسيا في اتجاه الألم، وعن طريق هذا التحول يتحرر من الرغبة المنفعلة التي يكون كل وجود فردي مظهرا لها، ويصل إلى النقطة التي يغادر فيها الحياة، ولم تبق لديه أية رغبة فيها وفي ملذاتها. بل إن الألم، في الواقع، هو عملية التطهير التي يصل الإنسان بها وحدها إلى القداسة؛ أي يرجع بها عن ذلك الطريق الضال، طريق إرادة الحياة. (المجلد الثاني، الفصل 49)
وفي هذا النص الأخير يربط شوبنهور بين مذهبه في الخلاص، وبين أخلاق الزهد والعطف فيقول:
إذا ما رفع «حجاب المايا»،
1
وأعني به «مبدأ الفردية»
principuum individuationis ، عن أعين المرء حتى لا يعود يميز على نحو أناني بين ذاته وأشخاص الآخرين، وإنما يهتم بآلام غيره مثلما يهتم بآلامه هو؛ وبذلك لا يكون خيرا ومحسنا إلى أقصى مدى فحسب، بل يكون أيضا على استعداد للتضحية بفرديته إذا ما كان في ذلك إنقاذ لعدة أفراد آخرين، فلا بد أن شخصا كهذا، سينظر إلى آلام كل حي على أنها آلامه هو؛ وبذلك يأخذ على عاتقه عذاب العالم أجمع، فكيف يتسنى له، بمعرفته هذه للعالم، أن يؤكد نفس هذه الحياة عن طريق أفعال إرادية دائمة؛ وبذلك يزيد نفسه تقيدا بها، ويغدو أشد تعلقا بأهدابها؟ ... إن الإرادة تنصرف عندئذ عن الحياة، وتفر من تلك اللذات التي ترى فيها تأكيدا للحياة. فهنا يبلغ الإنسان حالة العزوف الإرادي والاستسلام والهدوء الكامل والقهر التام للإرادة، ولما لم يكن الإنسان أصلا إلا مظهرا للإرادة، فإنه يكف عن توجيه إرادته إلى أي شيء، ويحذر من تعلق إرادته بأي شيء، ويحاول أن ينمي في نفسه عدم الاكتراث التام جميعا. (الكتاب الرابع، القسم 68)
अज्ञात पृष्ठ