وقد صرح بيكن بأن قدراته لن تمكنه من كتابة هذا الجزء الأخير، الذي سيكتبه العلماء أنفسهم بأبحاثهم، المفكرون بآرائهم المبنية على دراسة سليمة للواقع. وكان يكفيه أنه بدأ السير في الطريق، وعلى البشرية أن تكمل ما بدأ.
وأول ما يلاحظ على هذه الخطة هو أن بيكن لم يتم الجزء الأكبر منها، وكل ما فعله هو أنه حدد أهدافه العامة، ثم شرع في تنفيذ أجزائها الأولى، وتوقفت جهوده عند هذا الحد، وقد عمل شراح فلسفته على إدراج كتاباته المتفرقة - ولا سيما مقالاته اللاتينية - ضمن هذه الخطة، وإن لم يكن هو ذاته قد فعل ذلك، وحتى في هذه الحالة نجد أن هناك أجزاء غير قليلة من هذه الخطة لم تكتب فيها إلا صفحات قلائل، بينما الجزء الأخير لم يكتب فيه حرف واحد.
ولعل أهم نتيجة تكشف عنها خطة بيكن هذه هي أنه لم يؤلف بالفعل كتابا اسمه «الأورجانون الجديد»، وإنما ألف جزءا من «الإحياء العظيم» يحمل هذا العنوان، وعندما نشر هذا الجزء أثناء حياة بيكن، كان الغلاف يحمل اسم «الإحياء العظيم». وهكذا فإن «الأروجانون الجديد» ليس كتابا مستقلا، وإنما هو جزء من كتاب، أو على الأصح جزء من خطة عامة لإصلاح العلم وللنهوض بحياة الإنسان. ومن الواجب دائما أن ينظر إليه داخل سياقه الطبيعي، لا أن يؤخذ على أنه بحث منفصل يكون أهم كتابات بيكن. وقد تضمن القسم الثاني من «الأورجانون الجديد» خطة فرعية لهذا الجزء، لم يستطع بيكن أن يتمها بدورها. وهكذا فإن «الأورجانون الجديد» جزء من خطة شاملة لم تكتمل. كما أن للأورجانون الجديد نفسه خطة فرعية لم يكتمل منها إلا جزء بسيط، وقد ألف الكتاب على صورة فقرات منفصلة
aphorisms
لها أرقام ثابتة، وهو مؤلف من جزأين: جزء سلبي بعنوان «تفسير الطبيعة وقدرة الإنسان»، وجزء إيجابي بعنوان «تفسير الطبيعة وسيادة الإنسان»، وأسلوب الكتاب شيق بليغ، يتضمن تشبيهات رائعة اشتهر بها بيكن في كل كتاباته حتى عده البعض أمير البيان في عصره، سواء أكتب باللاتينية أم بالإنجليزية (وقد بلغ من تحكمه في اللغة أن ذهب بعض الباحثين المحدثين إلى أنه هو المؤلف الحقيقي لدرامات شكسبير، على حين أن هذا الأخير لم يكن إلا شخصا مغمورا، ورغم ابتعاد هذا الزعم عن الصواب، فإنه ينطوي على تقدير ضمني هائل لأسلوب الكتابة عند بيكن).
ولا شك أن من الأسئلة الهامة التي ينبغي الإجابة عنها في صدد الكلام عن مؤلفات بيكن، السؤال عن السبب الذي دفعه إلى الكتابة بطريقة الفقرات المنفصلة، في هذا الكتاب الرئيسي على الأقل. والواقع أن مجموعة مؤلفاته كلها كانت بدورها أشبه بالفقرات المنفصلة التي تفتقر إلى الإحكام والترابط: فكان يبدأ مشروعا تأليفيا ثم يتركه لينتقل لغيره، وقد يعود إلى المشروع القديم بعد ذلك ولكن بعد تغيير خطته. وهكذا فعلى أي نحو نعلل هذا الطابع غير المتصل لتفكيره سواء في كتاب «الأورجانون الجديد» وفي مؤلفات منظورا إليها في مجموعها.
أول تعليل لهذه الظاهرة نستمده من طبيعة حياة بيكن: فقد كانت مهامه العامة وآماله في المناصب الكبيرة ومساعيه للوصول إليها تشغل الجزء الأكبر من وقته. وليس معنى ذلك أنه آثرها على العلم، وإنما المهم في الأمر أن أوقات فراغه كانت محدودة. وهكذا كان يكتب في فترات «الهدنة» ما بين حروبه المستمرة مع خصومه، ومشاغله التي لا تنقطع في الحياة العامة، ومن المؤكد أن هذه الحياة المضطربة الصاخبة قد انعكست على طريقة تفكيره وكتابته، وطبعتها بطابع التجزؤ والاضطراب.
على أننا نستطيع أن نهتدي في كتابات بيكن ذاتها إلى تعليل موضوعي آخر لهذه الظاهرة، مستمد من نظرته الخاصة إلى الطريقة التي ينبغي أن يعرض بها المفكر النزيه آراءه، فهو في إحدى فقرات كتاب «الأورجانون الجديد» يعلل سبب إجماع الناس على الإعجاب بكتابات الأقدمين، رغم كل ما فيها من نقص، فيقول: «إنهم يقدمونها إلينا ويعرضونها علينا بطريقة من شأنها أن تضفي عليها قناعا نتوهم معه أنها كاملة تامة، فلو تأملت منهجهم وتقسيماتهم، لبدا أنها قد انتظمت كل ما يتعلق بالموضوع واشتملت عليه، ومع أن هذا الإطار قد أسيء ملؤه، وأنه أشبه بالقربة الفارغة، فإنه يتخذ في نظر الذهن الساذج مظهر العلم الكامل وصورته. أما الباحثون الأوائل القدماء عن الحقيقة، فقد كان لديهم من الأمانة ومن التوفيق ما جعلهم ميالين إلى أن يصوغوا ويعرضوا كل معرفة أرادوا استخلاصها بالتأمل، في صورة فقرات منفصلة
aphorisms ، أو جمل قصيرة مبعثرة لا يربط بينهما أي منهج، دون أن يدعوا أو يزعموا أنها تشتمل على أي علم كامل»،
2
अज्ञात पृष्ठ