ولسنا في حاجة - لكي نثبت وجود نقاط الالتقاء هذه - إلى تناول عناصر الاختلاف السابقة واحدا بعد الآخر لكي نهتدي إلى ما يمكن وراء كل منها من جوانب الالتقاء، بل يكفينا لإثبات وجهة نظرنا أن نشير إلى بعض من أهم هذه العناصر ونعيد تفسيرها في ضوء فكرة التشابه بدلا من فكرة الاختلاف.
فقد ذكرنا من قبل أن السعي إلى الحقيقة لا يترك مجالا للخيال، الذي هو ألزم اللوازم في الفن، وأن العالم يسير في طريقه مقيدا بالواقع وقوانينه الصارمة التي لا يملك إلا أن يخضع لها. ولكن هل القول: إن الحقيقة العلمية لا مجال فيها للخيال، هو قول صحيح على نحو مطلق؟ الواقع أن العلماء الكبار أنفسهم هم أول من يشهدون بأن البحث عن الحقيقة يقتضي من الخيال قدرا قد يقترب - في بعض الأحيان - مما يحتاج إليه الفنان؛ فالنظريات الكبرى في العلم لم تكن مجرد تقنين وتدوين للمشاهدات والملاحظات العلمية فحسب، وكل كشف علمي كبير كان أكثر من مجرد تلخيص للوقائع المشاهدة؛ إذ إن عقل العالم يقفز - بعد مرحلة جمع الوقائع وتحليلها - لكي يقدم فرضا جزئيا يحتاج إلى قدر كبير من الخيال. صحيح أن هذا الفرض لا بد أن يكون له ما يبرره - ولو بطريق غير مباشر - في الوقائع المشاهدة. وصحيح أن العالم يسعى إلى تحقيق فرضه هذا عن طريق إجراء تجارب حاسمة تثبت صحته أو خطأه، ولا يقبل أن يظل فرضه هذا مجرد فكرة خيالية غير محققة. ولكن المهم في الأمر أن ملكة الخيال تتدخل في مرحلة حاسمة من مراحل الكشف العلمي، وتقوم بدور أساسي في الوصول إلى الحقيقة العلمية؛ ومن هنا كان إخفاق تلك الفلسفات التي تصور العلم بأنه مجرد تكديس للوقائع وتحقيق لها واستخلاص مباشر لما توحي به المقارنة بين هذه الوقائع؛ فالعالم الكبير - الذي يتوصل إلى النظريات العلمية الحاسمة - غالبا ما يكون من أصحاب الخيال الخصب، إلى جانب كونه ملاحظا دقيقا ومفكرا عميقا، وهو لا يفهم الواقع إلا عن طريق تجاوزه بالخيال.
ولو تأملنا تفاصيل الدور الذي يقوم به الخيال في كشف الحقيقة العلمية؛ لوجدنا أن طريقة عمل الخيال مشابهة لما يحدث في ميدان الفن؛ فالفكرة الجديدة لا تظهر إلا بعد إعداد وتهيئة طويلة في ذهن العالم أو الفنان، وهو يظل في حالة انشغال بموضوعه وتفكير متعمق فيه، وبعد ذلك قد تأتي الفكرة المنشودة على شكل إلهام مفاجئ على أن هذا الإلهام لا ينبثق إلا في أرض مهيأة له سلفا عن طريق الإعداد والتفكير والاهتمام المركز، تلك سمة لا ينكر أحد أنها من أخص سمات الإبداع الفني في الوقت ذاته.
ولنتناول عنصرا آخر من عناصر الاختلاف بين العلم والفن، وهو عنصر الضرورة والحرية، فلو تعمقنا بحث هذا الموضوع لوجدنا أننا نستطيع تعديل الحكم السابق الذي ذكرنا فيه أن الفنان يتحرك في عالم من الحرية المطلقة؛ إذ إن هذه الحرية المطلقة ترتبط، في الواقع، بتصور تقليدي للفنان، كان سائدا في العصر الرومانتيكي بوجه خاص. أما في عصرنا الحاضر فقد أحاط الالتزام بالفنان من كل جانب، فمن حيث الموضوعات التي يعالجها الفنان نجده قد أصبح «ملتزما»، بمعنى أنه ينشغل بقضايا معينة - قد تكون قضايا اجتماعية أو إنسانية - يأخذ على عاتقه في علمه الفني أن يدافع عن وجهة نظر معينة فيها، وعلى الرغم من أن هذا الالتزام لا يفرض على الفنان - في معظم الأحيان - بقوة خارجية قاهرة، بل يفرضه هو نفسه على ذاته بإرادته، فإن وجوده يدل على أن الفنان الذي يتحرك في عالم الحرية المطلقة قد أصبح في عصرنا الحالي أسطورة بالية، ومن ناحية أخرى فإن الفنان - في كثير من الأحيان - يفرض على نفسه نظاما صارما من التدريب ومن العمل الشاق من أجل إتقان «صنعته»؛ بحيث أصبح الفنان «التلقائي» الطليق الذي يغرد بحرية كالعصفور أسطورة بدوره. وهكذا اكتشفنا في عصرنا الحاضر أن الحرية المطلقة لا تصنع فنانا رفيع المستوى، وأن هناك أنواعا من «الضرورة» تتحكم في الفنان، قد لا تختلف كثيرا عن تلك التي تتحكم في العالم.
ومن ناحية أخرى فإن الضرورة التي تتحكم في العالم قد خفت حدتها إلى مدى غير قليل في العلم المعاصر؛ إذ إن الحتمية الدقيقة قد أرخت قبضتها عن العلوم، واستطاع العلماء أن يصلوا إلى مجموعة من أهم اكتشافاتهم عن طريق الخروج عن إطار البديهيات الحتمية التي كان العلم - فيما سبق - يعدها أمورا غير قابلة للمناقشة. ومن المؤكد أن حرية العالم في هذا التحدي لم تكن مطلقة، بل كانت مقيدة باعتبارات تنتمي إلى صميم بحثه العلمي. ولكن الشيء الذي لا يملك المرء إلا أن يعترف به هو أن التصور التقليدي «للضرورة» التي تتحكم في فكر العالم وسلوكه قد تغير كثيرا، وأصبح العلم في الآونة الأخيرة يسمح بقدر من الحرية يتيح للعالم أن يبني أنساقا فكرية جديدة تتسم بالتماسك في داخلها، وإن كانت ترتكز على أسس شاركت في وضعها - جزئيا على الأقل - حرية العالم وقدرته على الخروج عن الضرورة المحتومة التي كانت سائدة في نظرة العصور السابقة إلى العلم.
ومجمل القول: إن الشقة بين الحقيقة العلمية والجمال الفني يمكن أن تضيق كثيرا، حين نكتشف أن العلم ليس مقيدا إلى الحد الذي نتصوره عادة، وأن الفن ليس حرا إلى الحد الذي يبدو عليه لأول وهلة. •••
هناك إذن أرض مشتركة بين الحقيقة والجمال، على الرغم من كل ما يفرق بينهما من الاختلافات، ووجود هذه الأرض المشتركة معناه أننا نستطيع أن نتحدث عن «حقيقة فنية» لها سمات مميزة، تلتقي بالحقيقة العلمية في جوانب وتفترق عنها في جوانب أخرى.
ولنلاحظ - بادئ ذي بدء - أن الفن يمكنه في أحوال كثيرة أن يقدم إلينا حقائق مباشرة، فالعمل الفني يمكن أن يكون - في حالات معينة - شاهدا على عصره، ويمكن أن يستخدم «وثيقة» نعرف بواسطتها الكثير عن هذا العصر، ولنذكر في هذا الصدد أن قدرا كبيرا من معلوماتنا عن العصور البدائية مستمد من أعمال فنية تركها البدائيون على جدران كهوفهم، ومنها استخلص علماء الحضارات القديمة كنزا من المعلومات عن حياة الإنسان البدائي. ولعل أحدا لا يستطيع أن ينكر الدور الذي تقوم به أشعار «هوميروس» وغيرها من الآثار الفنية اليونانية في تعريفنا بالعالم اليوناني القديم. وفي استطاعتنا أن نجد أمثلة مشابهة في تاريخنا العربي؛ إذ إن الشعر الجاهلي - مثلا - مصدر عظيم القيمة من المصادر التي يعتمد عليها في معرفة تاريخ العرب القديم وعاداتهم ونظمهم الاجتماعية ... إلخ. وفي أحيان غير قليلة استطاع العلماء - عن طريق التحليل الدقيق لأعمال فنية - أن يملئوا فراغات كبيرة في معرفتهم بعصور ماضية لا تقدم إلينا أنواع الوثائق الأخرى معلومات كافية عنها.
وإذن فالفن قادر على أن يزودنا بحقائق مباشرة. ولكن هذا ليس على التحديد ما نقصده حين نتحدث عن «حقيقة فنية»، وإنما نقصد بهذا التعبير نوعا آخر من الحقيقة، فهناك كثير من الناس يقولون: إنهم تعلموا الكثير عن الحياة والعالم والإنسان من خلال أعمال فنية كشفت لهم «حقائق» لم يكونوا متنبهين إليها. وربما ذهب البعض إلى حد القول: إنهم تعلموا من الفن أكثر مما تعلموا من العلم. هذا هو نوع الحقيقة الفنية الذي نود - فيما تبقى من هذا المقال - أن نعرض لأهم خصائصه.
وأول ما يلاحظ على هذه الحقيقة أنها غير مباشرة، لا تقدم إلينا المعلومات على هيئة سرد ينقلها إلى أذهاننا تامة جاهزة؛ فهي حقيقة «يوعز بها» العمل الفني دون أن يقدمها صريحة على النحو الذي نجده في الكتب العلمية. بل إن التعبير الصريح عن هذه الحقيقة يضعف من تأثيرها ويقلل من قيمة العمل الفني الذي تتجسد فيه؛ ومن هنا كان الفن الذي يحاكي الواقع محاكاة مباشرة فنا ضئيل الشأن، فضلا عن أنه - بهذه المحاكاة المباشرة - لا يصل إلى الحقيقة الكامنة لهذا الواقع.
अज्ञात पृष्ठ