وما يترتب عليها من تيسير ذاتي للمصانع (أوتوميشن
Automation ). هذا التطبيق كانت له - في الدول التي أخذت به - آثار عظيمة الأهمية في الحرية الشخصية للعاملين بها؛ ففي عصر الآلة - وهو المرحلة السابقة لتلك التي نتحدث عنها؛ أعني المرحلة الممتدة من الثورة الصناعية الأولى حتى الحرب العالمية الثانية على وجه التقريب - كان الإنتاج مشتركا بين الإنسان والآلة؛ بحيث كان كل منهما يتقيد بحدود الآخر. وكان الإنسان مرتبطا بالآلة، بل كان عبدا لها يلتزم مسارها الرتيب، ويضطر إلى تكييف ملكاته وقواه حسب حدودها، ومن جهة أخرى فإن الآلة كانت تعمل وفقا لقدرة الإنسان، ولما كانت للمقدرة الإنسانية حدود لا تتعداها، فقد كان قصور الطاقات الإنسانية يعوق الانطلاق الحر للآلة، ويحول بينها وبين العمل بالسرعة المطلوبة. ولكن عصر التسيير الذاتي (الأوتوميشن) قد كسر تلك القيود التي كانت تجمع بين الإنسان والآلة في جهاز إنتاجي واحد، وحرر طرفي هذه العلاقة معا، فهو قد حرر الآلة بحيث تستطيع أداء مهمتها الإنتاجية كاملة، دون أن تتقيد بحدود الإنسان، وهو أيضا قد حرر الإنسان بحيث يمكن إنجاز أعظم ما ينتظر منه في ميدان الإنتاج وفي غيره من الميادين التي يمارس فيها ملكاته الخلاقة على أفضل نحو؛ وبذلك ساعدت التكنولوجيا كلا من الإنسان والآلة على تحقيق أعظم ما لديهم من إمكانات، وعلى بلوغ قدر من الحرية لم يكن من الممكن تصوره في أي عصر سابق.
1
وحين لا يعود الإنسان داخلا في العملية التكنولوجية المباشرة بوصفه واحدا من عناصرها، يكتسب الإنسان حرية جديدة في أوقات قيامه بالعمل الإنتاجي وفي أوقات فراغه. أما الحرية التي يكتسبها أثناء العمل الإنتاجي، فترجع إلى أنه لا يعود مضطرا إلى أداء ما يفرضه عليه تركيب الآلة بنفس السرعة التي تفرضها الآلة.
2
وفضلا عن ذلك فإن الإنسان في هذا النوع من الإنتاج يقف من الآلة موقف السيد لا العبد، فهو لا يكتفي بالتحرر من إيقاعها الرتيب. بل إنه يكتسب من الخبرات ما يتيح له أن يسيطر على الآلة سيطرة تامة، ويستخلص منها أكبر قدر ممكن من الفوائد، فضلا عن ازدياد قدرته على تطويرها من أجل تلافي أوجه النقص فيها بسرعة، واستخلاص إمكانات جديدة منها.
ولكن النوع الآخر من الحرية - الذي يكتسبه الإنسان بفضل الأساليب التكنولوجية الحديثة وأعني به الحرية في أوقات الفراغ - هو الذي يثير في واقع الأمر أعقد المشكلات؛ ذلك لأن التكنولوجيا الحديثة أصبحت تقدم للإنسان إنتاجا أكبر بجهد ووقت أقل، ولم يعد الإنسان في حاجة إلى ساعات العمل الطويلة المرهقة التي كانت تقتضيها أساليب الإنتاج القديمة، بل أصبح الاتجاه العام هو الاتجاه إلى تقصير يوم العمل على نحو مطرد؛ ومن ثم زادت أوقات فراغ الإنسان العامل زيادة كبيرة، ولا بد أن يؤدي التطوير في المستقبل إلى زيادة ساعات الفراغ على ساعات العمل.
على أن زيادة أوقات الفراغ ليست غاية في ذاتها؛ لأن الفراغ يمكن أن يتحول إلى خمول يلحق بالإنسان ضررا بالغا، أو يدفعه إلى التفكير في وسائل تعمل على إثارة حواسه المتبلدة بأي ثمن، ولذلك فإن توفير الوقت الحر ينبغي أن يكون مقترنا بالتفكير في أفضل وسائل الانتفاع من هذا الوقت؛ ذلك لأن الغاية الحقيقية - كما قلنا - ليست هي أن تزيد أوقات فراغ الإنسان العامل، بل هي أن يصبح هذا الإنسان سيدا مسيطرا على وقته بحق، وإلا وقع فريسة عبودية من نوع جديد؛ بحيث يسيطر عليه الخمول أو الإثارة الزائفة أو الثقافة الضارة، وينتهي به الأمر إلى أن يصبح عبدا لوقته الحر لا سيدا له.
والحق أن الطرق المألوفة حاليا في قضاء أوقات الفراغ تهدد حرية العقل الإنساني بأخطار حقيقية، ولن نتحدث هنا عما يحدث على أرصفة المدينة الحديثة - وبخاصة في البلاد المتخلفة في التصنيع - من تبديد لساعات طويلة على المقاهي في أحاديث وألعاب مملة، أو في أحلام يقظة مريضة. بل إن ما يحدث داخل البيوت ذاتها أهم من ذلك وأخطر بكثير؛ ففي أمسية هذه المدينة الحديثة، تجد العدد الأكبر من سكانها يضحكون معا في لحظة واحدة ؛ وذلك لأن اختراعا هائل التأثير مثل التليفزيون يعرض عليهم نفس البرنامج، ويشكل عقولهم بنفس القوالب، ويتحكم في انفعالاتهم على نفس النحو، وما أسهل أن تغرس في نفوس الناس سموم كثيرة، وتنمى عادات ومطالب زائفة، عن طريق هذا الجهاز الصغير الذي يشد إليه - خلال ساعات طويلة - انتباه ملايين الناس الذين حققت لهم التكنولوجيا فراغا في الوقت وفائضا من المال، ومثل هذا يقال - مع تعديلات طفيفة - على التأثير الذي تحدثه الصحافة اليومية والإذاعة والسينما؛ ففي كل هذه الحالات يؤدي تقدم العلم التطبيقي إلى صبغ الثقافة بصبغة نمطية موحدة قد لا تكون أضرارها وخيمة إذا كانت تستهدف النهوض الفعلي بعقول الجماهير ومشاعرها. ولكنها تصبح خطيرة التأثير حقا إذا وضعت لنفسها أهدافا تحقق مصالح سياسية أو اقتصادية على حساب تضليل الجماهير وتشويه عقولها، والقضاء التدريجي على ما بقي لديها من قدرة على النقد والرفض والانتقاء.
وربما أدى انعدام التوازن بين وقت الفراغ ووقت العمل إلى أن تثار في الغد مشكلة التحرر المفرط من العمل. صحيح أن العمل الشاق فيه إذلال للإنسان وحط له إلى مرتبة الحيوان، وأن من أهداف الثورات الاجتماعية والتكنولوجية الحديثة تحرير الإنسان من هذا النوع من الإذلال، والسمو به من مرتبة الأداة المنتجة إلى مرتبة الكائن الواعي بنفس وبالعالم المحيط به، غير أن السير في هذا الاتجاه إلى نهايته قد يثير المشكلة العكسية، وأعني بها الحاجة إلى العمل، فقد يدرك الإنسان في المستقبل أن العمل ضروري حتى لو كان في استطاعته الاستغناء عنه والاكتفاء منه بحد أدنى، وقد يصبح السعي إلى العمل ضرورة مطلوبة لذاتها أو لتحقيق التوازن، في شخصية الإنسان، بين النشاط المتحرر المنطلق في أوقات الفراغ، وبين النشاط الملتزم المقيد في أوقات العمل المنتج. وربما حدث للإنسان نوع من رد الفعل المماثل لما حدث في علاقته بالطبيعة، حين سعى في البداية إلى التحرر منها بعد أن استعبدته طويلا. ولكنه سئم هذا التحرر المفرط، وظهر رد الفعل على صورة «المحافظة على البيئة» و«استرجاع الطبيعة» وغير ذلك من النزعات التي لا تكف عن ممارسة تأثيرها على نمط حياة الإنسان الحديث وعلى فنه وأدبه.
अज्ञात पृष्ठ