لم يقتنع مفكرون كثيرون بوجهة النظر السابقة، التي تؤكد وجود تعارض أساسي بين العلم والحرية. وكان عدم اقتناعهم هذا راجعا إلى ما تشهد به التجربة ذاتها، من أن تحرر الإنسان مواكب لتقدمه في العلم، على حين أن الجهل مظهر من أوضح مظاهر عبودية الإنسان، وابتداء من هذه المقدمة التي لا تحتاج إلى برهان؛ لأنها مستمدة من تجربة المجتمعات التي ارتكز عليها أنصار الرأي السابق، لكي يهتدوا إلى أوجه الخطأ أو النقص فيها، ولم يكن من العسير عليهم أن يهتدوا إلى الأساس النظري الكفيل بتأييد الارتباط الوثيق الذي تشهد به التجربة تقدم العلم وزيادة حرية الإنسان.
ولقد كان لزاما على هؤلاء المفكرين أن يحاربوا - منذ البداية - وجهة النظر التي تفصل بين العلم والحرية، بحجة أن العلم متعلق بمجال المعرفة، على حين أن الحرية تتعلق بمجال الفعل والسلوك والإرادة؛ ذلك لأن تأكيد هذا الانفصال يعني - في نهاية الأمر - استحالة قيام أية علاقة بين العلم والحرية، ما دام لكل منهما مجاله الخاص؛ فالعلم يبحث في الأمور النظرية ويستهدف بلوغ الحقيقة لذاتها، على حين أن الحرية مفهوم علمي في أساسه، يحققه السلوك البشري، ولا يتأثر بالحقيقة النظرية في قليل أو كثير.
هذا الرأي ينكر التداخل الوثيق بين الجانب النظري والعلمي في حياة الإنسان، ويتصور العلم عاكفا على الكشف النظري للحقائق دون أي اهتمام بالتطبيق، ويبدو له أن قيمة الحقيقة تقطن - كما أراد لها أفلاطون - في عالم مثالي مفارق لعالمنا هذا، لا شأن له بمشكلات العالم الأرضي أو بالتطبيقات العلمية، ولسنا في حاجة إلى جهد كبير لكي نثبت بطلان هذا الانفصال غير المشروع بين مجال النظر ومجال العمل أو التطبيق؛ إذ إن العلم - في كل كشف نظري يبلغه - يحرز انتصارات علمية مرتبطة بهذا الكشف أوثق الارتباط، ولا يمكن فصلها عنه إلا تعسفا.
ليس هناك - إذن - انفصال بين مجالي الحرية والعلم، أو بين ميدان السلوك العلمي وميدان الحقيقة النظرية؛ فالعلم حين يسعى إلى كشف أسباب الظواهر - وهو سعي يبدو نظريا خالصا - يقدم إلينا في الوقت ذاته الوسائل التي تتيح لنا السيطرة على هذه الظواهر، وبالتالي إثبات حريتنا إزاء الضرورة الطبيعية. بل إن المبدأ العام الذي يرتكز عليه الجهد العلمي، ولا يكون هذا الجهد مفهوما بدونه، وهو مبدأ الحتمية، ووجود ارتباط منتظم بين الظواهر، هو في ذاته عامل عظيم الأهمية في تحقيق الحرية الإيجابية للإنسان، فهذا المبدأ يعني أن كل جهد يبذله الإنسان يمكن أن يحقق النتائج المقصودة منه، إذا كان هذا الجهد متجها في الاتجاه الصحيح، وأننا لو غيرنا اتجاه جهدنا لتغيرت النتائج المترتبة عليه. وهذا معناه أن مبدأ الحتمية - الذي يبدو في ظاهره مبدأ نظريا بحتا - يساعد على تحقيق الحرية بمعناها العلمي الإيجابي، أي من حيث هي بلوغ أهداف فعلية مطابقة لما نبذله في سلوكنا من جهد، وسائرة في نفس الاتجاه الذي يسير فيه هذا السلوك. أما لو تخيلنا أن مبدأ الحتمية ليس هو المسيطر، أي إذا تصورنا أن كل شيء في الكون لا يخضع لقوانين العلم الضرورية، إما لأن هناك قدرا محتوما يفرض على الطبيعة مسارها بقوة خارجية، لا بقواها الباطنة الخاصة، وإما لأن العرضية الشاملة هي التي تسود؛ بحيث لا يتعين أن تؤدي نفس الأسباب إلى حدوث نفس النتائج، لو تخيلنا ذلك فسوف تغدو الحرية مستحيلة؛ إذ إن هذا معناه أن أي جهد نبذله لن يكون له أثر، وأن كل شيء إما أن يحدث بطريقة مرسومة مقدما بغض النظر تماما عن الجهد الذي نبذله، وإما أن يحدث بطريقة عشوائية لا تعبر عن ارتباط منتظم بين الظواهر. وفي كلتا الحالتين تختفي العلاقة السببية بين جهدنا وبين النتائج التي نتوقعها منه، أو التي نبذل هذا الجهد من أجل بلوغها.
وهكذا فإن فكرة العرضية الشاملة التي تستبعد كل حتمية، والتي بدا لنا من قبل أنها هي التي تجعل الحرية ممكنة، تقف حاجزا منيعا في وجه كل حرية إيجابية نستهدف فيها تحقيق نتائج معينة من أفعالنا، ومعنى ذلك أن سيادة العرضية لا تقل تعارضا مع الحرية عن فكرة الجبرية المطلقة، أو القدرية التي لا تترك مجالا لأي تصرف فردي، وبالحتمية العلمية وحدها؛ أعني بالمبدأ القائل بوجود ترابط منتظم قابل للفهم بين الظواهر، يمكن للحرية أن تتحقق إيجابيا، بحيث تترتب على الأفعال الإنسانية كل النتائج التي نتوقعها منها.
بهذا المعنى يزول كل تعارض بين العلم والحرية، بل يصبح العلم أقوى أداة لتحقيق حرية الإنسان في مظهرها الإيجابي الفعال؛ أعني تلك الحرية التي تتجلى في سيطرة الإنسان على الطبيعة بمزيد من الإحكام. وفي قدرته على فهم قوانينها واستغلالها لصالحه، وعلى الرغم من أن هذا الاتفاق بين العلم والحرية قد تأكد إلى أقصى حد بفضل كشوف العلم الحديث، فإن في وسعنا أن نجد لدى مذهب يوناني قديم - هو المذهب الرواقي - استباقا لهذا الاتجاه؛ إذ إن الرواقيين كانوا بدورهم يربطون بين فهم الإنسان للضرورة السائدة في الكون، وبين تحرره من انفعالات، فالإنسان - في نظرهم - يظل عبدا لانفعالاته ما دام يستسلم لها، وينظر إليها كما لو كانت قوة لها كيانها الخاص، تطغى على كل ما عداها من القوى المحيطة به. أما لو توصل إلى إدراك أن انفعالاته ليست إلا جزءا ضئيلا من القوانين الكلية للطبيعة، وإلى أن الأسباب التي تؤدي إلى ظهور هذه الانفعالات ليست إلا حوادث ضرورية كان ينبغي أن تحدث، ولا تستطيع انفعالاته - مهما اشتدت - أن تغير منها شيئا؛ فعندئذ يستطيع عقله أن يترفع عن الاستسلام للانفعال، وأن يوجه إرادته إلى موقف من «الكبرياء» يتعالى على كل عوامل الضعف في النفس البشرية.
ولقد لاحظنا من قبل، عند الكلام عن نقيضة العلم والحرية، رأي اسبينوزا القائل: إن حرية الإنسان تتحقق إذا ما استطاع أن يفهم الضرورة الكامنة في الظواهر، وأن يربط كل حادثة جزئية بالمجرى العام للحوادث الكونية. هذه القدرة على الفهم هي التي تحرر الإنسان من عبودية الانفعالات، وبقدر إدراك الإنسان للضرورة الكونية يكون حرا. ولا جدال في أن هناك ارتباطا وثيقا بين رأي اسبينوزا هذا وبين الرأي الرواقي، حتى إن الكثيرين نظروا إلى موقف اسبينوزا على أنه ترديد لفكرة رواقية قديمة، لم يأت فيه بجديد؛ على أننا نستطيع أن نلمح اختلافا رئيسيا بين الموقفين؛ فالموقف الرواقي كان يقف عند حد النتيجة السلبية، وهي التحرر من الانفعال، ولم يكن يجعل للعقل من دور إلا إدراك مبدأ الضرورة الكونية فحسب. أما اسبينوزا فإنه يتجاوز هذا الموقف السلبي، مع استيعابه له، ويؤكد أن المعرفة والفهم في ذاتهما - لا من حيث هما وسيلة للتخلص من الانفعالات فحسب - هما اللذان يحققان للإنسان حريته بمعناها الصحيح، فإدراك الضرورة عنده مرتبط بالحرية لمجرد كونه فهما عاقلا للقوانين الكونية. وفي العمل العقلي الذي نربط فيه كل الظواهر بأسبابها يكون تحررنا، وما التخلص من الانفعالات إلا خطوة تمهيدية تهيئ السبيل لتلك الممارسة العقلية التي هي أشرف غاية يمكن أن يستهدفها الإنسان. وهكذا يتفق رأي اسبينوزا مع الموقف الرواقي ثم يتجاوزه، والفارق بين الموقفين هو - بطبيعة الحال - تعبير عن الاختلاف بين فلسفة كان كثير من أقطابها مضطهدين، بل كان بعضهم عبيدا أرقاء بالفعل، تهدف إلى التخلص من مظاهر الانفعال التي تتملك النفس البشرية، دون أن تفكر على الإطلاق في السيطرة على الظروف الخارجية التي تولد هذه الانفعالات؛ لأن تلك الظروف خارجة تماما عن قبضتها، وبين فلسفة ظهرت في عصر الكشف العلمي وبداية التصنيع، تؤمن بأن من الممكن السيطرة إيجابيا على الطبيعة وعلى كل الظروف الخارجية التي تؤثر في الإنسان، ولا تكتفي بأن تقصر مجال اهتمامها على الإنسان من الداخل لكي تحرره من الانفعال فحسب.
ولقد أصبح هذا الرأي - الذي يربط إيجابيا بين الحرية والعلم - معبرا عن وجهة نظر الكثيرين في الفترة الحديثة من الفلسفة، ولسنا في حاجة إلى سرد أمثلة كثيرة لبيان مدى الأهمية التي أصبحت لهذا الرأي في الآونة الأخيرة. ولكن يكفي أن نشير إلى أن مذاهب فكرية متباينة أشد التباين قد أخذت، ومن أشهر هذه المذاهب - في الآونة الحاضرة - والمذهب الماركسي، الذي يرفض كل فهم للحرية مبني على فكرة عرضية الطبيعة أو نقص معرفتنا بقوانينها، ويؤكد أن لا حرية في ظل سيادة الصدفة والعشوائية، وأن الحرية ليست إلا الاستغلال القائم على الفهم لقوانين الطبيعة من أجل مصلحة الإنسان، والجديد الذي تضيفه الماركسية إلى هذا المبدأ - الذي رأينا أمثلة عديدة له خلال تاريخ الفكر الإنساني - هو أنها لا تقتصر على الربط بين الحرية وبين فهم قوانين الطبيعة، بل تربط - ربما على نحو أوثق - بينها وبين فهم قوانين المجتمع، فحرية الإنسان لا تتحقق كاملة إلا إذا استطاع أن يفهم الضرورة الكامنة في تطور المجتمعات البشرية، ويصل إلى القوانين المتحكمة في هذا التطور، ويستخدمها من أجل الوصول إلى مرحلة القضاء التام على استغلال الإنسان للإنسان. (2-5) الحرية والمعرفة الذاتية
كان المعنى الذي استخدمت به كلمة «العلم» حتى الآن هو معنى العلم بقوانين الطبيعة أو بقوانين الحياة الإنسانية. ولكن هناك مجالا آخر قد يكون للفظ «للعلم» فيه معنى مخالف، هو مجال معرفة المرء بذاته، فهل ينطبق ما قلنا من قبل عن العلاقة بين العلم والحرية على هذا المجال بدوره؟ أم أن الخصائص التي لا بد أن تتميز بها هذه المعرفة الذاتية عن سائر أنواع المعرفة، تجعل لهذه العلاقة طابعا مخالفا حين تطبق على هذا المجال؟
إن كثيرا من المفكرين يفرقون على نحو قاطع بين المشاهدة الخارجية لسلوك الآخرين، وبين تأمل الفاعل نفسه لسلوكه؛ ففي الحالة الأولى يبدو سلوك الآخرين في أغلب الأحيان خاضعا لعوامل ضرورية. أما حين أتأمل سلوكي الخاص فإني أشعر بنفسي حرا من كل قيد، والمشكلة في هذه الحالة هي أن الآخرين بدورهم يمكنهم - حين يشاهدون سلوكي - أن ينسبوه إلى عوامل ضرورية مسببة له؛ بحيث يكون للفعل الواحد طابع الضرورة في آن واحد.
अज्ञात पृष्ठ