من المعروف تاريخيا، أن انتشار المثل الأعلى للحرية الشاملة كان مرتبطا ببداية عصر التصنيع واستغلال الإنسان للطبيعة على أساس الفهم الصحيح لقوانينها. ومن المعروف أن عصر التصنيع لم يكن من الممكن أن يبدأ إلا بعد أن مهدت له الطريق كشوف العلم الحديث منذ القرن السابع عشر. وربما قبل ذلك، وهنا يظهر الارتباط واضحا بين النهضة العلمية الحديثة وبين توسيع نطاق فكرة الحرية؛ فالعلم الحديث إذا كان قد أدى - من الوجهة السلبية - إلى تحرير الإنسان من الجهل وتحقيق سيطرته التدريجية على الطبيعة، فإنه أدى - من الوجهة الإيجابية - إلى نشر أفكار عن الحرية يمكن أن يقتنع بها ويحارب من أجلها ملايين الناس.
وقد أثبت العصر الحديث، على نحو لا يدع مجالا لأي شك، أن العلاقة بين العلم والحرية الشخصية علاقة طردية، وأن التقدم في أحدهما يعني تقدما في الآخر، فمنذ بداية عصر النهضة كان ظهور البوادر الأولى للمنهج العلمي الحديث يعني تحررا من سلطة الكنسية التي فرضت أقصى القيود على إنسان العصور الوسطى، ولم تكن الكشوف الفلكية الحاسمة التي توصل إليها كبرنيكوس وكبلر وجاليليو تعني بداية عصر جديد في تاريخ العلم فحسب، بل كانت تعني أيضا تحرير الإنسان من خرافة الاعتقاد بأن الأرض التي يعيش عليها هي مركز الكون، وبأن كل شيء في العالم مسخر لخدمته، بأن الكون يدور من حوله بينما هو ثابت مستقر. وكانت تلك ضربة قاضية إلى النظرة الغائية التي سيطرت على تفكير الفلاسفة والعلماء أمدا طويلا، كما كانت بداية النظرة الموضوعية إلى العالم، التي يكتسب فيها الإنسان حريته بعلمه وكفاحه وسعيه إلى إخضاع كل شيء لما يضعه هو ذاته من النظم والقوانين، ولا يظن فيها أن هذه الحرية قد منحت له من السماء لمجرد كونه إنسانا، أو أن غاياته وقيمه الإنسانية مطبوعة أصلا على نظام الكون، وكان التقدم المطرد الذي أحرزه العلم التطبيقي - ممثلا في التكنولوجيا - مرتبطا أوثق الارتباط بالكفاح من أجل نشر الحرية على أوسع نطاق. وحسبنا أن نضرب مثلا واحدا على ذلك: فحركة المطالبة بتعديل قوانين الانتخاب البريطانية، وهو الحركة التي أحرزت نجاحا حاسما لها في قانون الإصلاح النيابي عام 1832م، لم يكن من الممكن تصورها قبل الثورة الصناعية التي كانت في ذاتها أوضح تعبير عن تقدم العلم والتكنولوجيا في العصر الحديث.
وكانت لهذا الارتباط بين المطالبة بالحريات الديمقراطية وبين تقدم العلم دلالته العميقة؛ ذلك لأن الحرية والعلم - في أعلى صورهما - ديمقراطيان؛ فالحرية لا تكتمل إلا إذا أصبحت حرية للإنسان من حيث هو إنسان، لا حرية فرد واحد، أو طبقة واحدة في المجتمع. بل إن الحرية المحدودة إنما تحمل في داخلها بذور القضاء على كل حرية، ومثل هذا يقال عن العلم، الذي لا يبلغ أوج اكتماله إلا حين يصبح عاما، ولم يعد احتكارا لفئة تنكر ثماره على الآخرين، ومعنى ذلك أن كلا من العلم والحرية لا ينقص كلما ازداد عدد المشاركين. بل إن اتساع نطاق المشاركة فيهما يزيد من نصيب المجموع ومن نصيب كل فرد منهما معا، وهنا نجد أن الحرية تتأثر بالعلم، ليس فقط من حيث إن تعميق العلم نوعيا وكيفيا يساعد على تحقيق المزيد من الحرية، بل أيضا لأن توسيع القاعدة التي يرتكز عليها العلم - من الناحية الكمية الخالصة - يعني مزيدا من انتشار الحرية وتعميمها. ولا شك في أن هذا هو أبلغ الدروس التي نكتسبها من تطور مفهومي العلم والحرية الشخصية في تاريخ عصرنا الحديث. (2) تحليل نظري للصلة بين العلم والحرية
إذا كان العرض التاريخي السابق قد أكد وجود علاقة طردية وثيقة بين العلم والحرية في عصور التاريخ الرئيسية، فإن المناقشة النظرية التحليلية لا تنتهي دائما إلى هذه النتيجة، فقد ظهرت آراء متعددة في هذا الموضوع، وصل بعضها إلى حد التناقض التام مع النتيجة السابقة. وكان ذلك أمرا طبيعيا من وجهة النظر الفلسفية؛ إذ إن المناقشة الفلسفية النظرية للمشكلات تعمل - كما هو معروف - على استطلاع مختلف جوانبها، من هنا فإن هذه المناقشة، وإن تكن تنتهي في كثير من الأحيان إلى نتائج نهائية، فإنها تساعد دائما على استكشاف كافة الأبعاد الظاهرة والخفية للمشكلة موضوع البحث، وتقدم مدخلا لا غناء عنه لكل دراسة عملية لهذه المشكلة، ومن هنا كان لزاما علينا أن نعرض لأهم الآراء التي قيلت - من وجهة النظر الفلسفية - في العلاقة بين العلم والحرية؛ لكي نتبين مدى اتفاق التحليل الفلسفي مع الواقع التاريخي أو اختلافه عنه. (2-1) حياد العلم إزاء الحرية
أول رأي يصادفنا في موضوع العلاقة بين العلم والحرية هو ذلك الرأي الذي يستبعد أصلا وجود هذه العلاقة؛ فالعلم في نظر الكثيرين يلتزم الحياد التام إزاء القيم البشرية كلها، وضمنها الحرية. وليس معنى ذلك - عند أصحاب هذا الرأي - أن العلم لا يكترث بهذه القيم أو أنه يرفضها أو يأبى أن يعمل لخدمتها. بل إن كل ما يعنيه هو أن العلم لا يتدخل في مجال القيم، ويترك لأنواع أخرى من النشاط الروحي والعقلي للإنسان مهمة بحث القيم والعمل على إعلائها، والواقع أن اتجاه العلم الحديث كله - منذ أيام ديكارت - يوحي بهذا الرأي؛ إذ إن التفسير الآلي للطبيعة وللكون قد أخذ يزداد قوة، وأصبح العلم يقف على الطرف المقابل للقيم البشرية، ويؤكد استقلاله التام عنها، وأصبحت الروح الموضوعية ذاتها - وهي شرط لا غناء عنه للعلم - تعني ترك القيم والمشاعر والأماني البشرية جانبا، وصار المثل الأعلى للمعرفة العلمية هو العلم الرياضي الذي أخذ يغزو على الدوام ميدانا بعد الآخر من ميادين المعرفة، حتى أصبح له اليوم دور أساسي في العلوم الإنسانية ذاتها، والعلم الرياضي محايد بطبيعته، بل هو النموذج الأكبر للحياد الموضوعي التام إزاء كل القيم.
وكانت قمة هذا الاتجاه إلى تأكيد حياد العلم هي المذهب الوضعي، الذي جعل للعلم وللقيم ميدانين مستقلين بينهما هوة لا تعبر، وأكد أن القيمة من حيث هي تعبير عن أمان ورغبات إنسانية، لا شأن لها بعملية وصف الأمور الواقعة التي يأخذها العلم على عاتقه. وهذا الحكم العام - حين يطبق على المشكلة التي نحن بصددها - يعني أن العلم محايد إزاء الحرية، فهو لا يقف في وجهها. ولكنه لا يستطيع أن يعمل شيئا من أجل تحقيقها؛ لأن الحرية تنتمي إلى ميدان خارج عن نطاق اهتمام العلم؛ أعني إلى ميادين القيم المعيارية
normative values ، على حين أن مهمة العلم تقريرية ووصفية
descriptive
فحسب.
وعلى الرغم من أننا لا نود أن ندخل الآن في معركة نقدية مع الرأي القائل بحياد العلم إزاء الحرية؛ لأن المناقشة التالية تتضمن في ذاتها نقدا ضمنيا كافيا لهذا الرأي، فإننا نستطيع أن نلاحظ - منذ الآن - أن هذا الرأي حتى لو صح؛ لكان أقصى ما يعنيه هو أن البحث العلمي في ذاته لا صلة له بالسعي من أجل الحرية. ولكن العلم يمكن أن ينظر إليه لا من حيث طبيعته الباطنة فحسب، بل من حيث نتائجه أيضا. ومن المؤكد أن نتائج العلم وتطبيقاته يمكن أن تكون ذات مساس مباشر بمشكلة الحرية، أيا كان فهمنا لهذا اللفظ الأخير؛ فالخطأ الذي وقع فيه الرأي القائل بحياد العلم هو أنه نظر إلى العلم بطريقة انعزالية؛ بحيث لم يضع في اعتباره سوى عملية البحث العلمي والممارسة العلمية فحسب، على حين أنه لو كان قد تأمل العلم في سياقه الأوسع - أعني من حيث أصوله وتطبيقاته الاجتماعية - لانتهى إلى رأي مخالف تماما، يظهر فيه التأثير المتبادل بين العلم والحرية بوضوح. (2-2) نقيضة العلم والحرية
अज्ञात पृष्ठ