Ratio - نظرة نسبية لا علاقة لها بالتاريخ؛ فالعقل قد تغير طابعه في مرحلة من مراحل بحثه؛ لأن هناك «بناء» مميزا لكل من هذه المراحل. أما تلك التغيرات التي تطرأ نتيجة لتفاعل العقل مع الأحداث وحركته خلال الزمان فإن فوكو لا يهتم بها، ولا يتحدث عنها في كتابه. وهكذا فإن كل ما يقدمه إلينا هو مجموعة من البناءات المغلقة إغلاقا محكما، والتي اتخذها العقل خلال الفترة الحديثة من الحضارة الأوروبية. أما كيفية الانتقال من كل بناء إلى آخر، والعوامل التي أدت إلى تغير البناءات، فهذا ما لا يحاول فوكو أن يفسره.
ولقد وضع فوكو لكتابه هذا عنوانا فرعيا هو:
Archéologie des sciences humaines .
وهو عنوان يمكن أن يعني في اللغة العربية أمورا كثيرة: فلفظ
archéologie
هو - في معناه المباشر - علم الآثار، وعلم الآثار علم تاريخي، فهل كان هذا ما يهدف إليه فوكو؟ الحقيقة أن رفضه للنزعة التاريخية يؤدي إلى استبعاد هذا التفسير من أساسه، كذلك قد يدل هذا اللفظ على فكرة القدم؛ بحيث يكون المعنى المقصود هو البحث في الجذور القديمة للعلوم الإنسانية أو في مبادئها الأولى،
28
لا بالمعنى التاريخي بل بالمعنى البنائي. وهذا بالفعل هو ما يقصده فوكو، فهو لا يريد أن يدرس ماضي الإنسانية من خلال وثائقها القديمة (كما يفعل علماء الآثار في ميدانهم الخاص) لكي يتابع بالتدريج تلك العملية التي أدت - من خلال تحولات تعاقبت تاريخيا في خط متصل - إلى اتخاذ العلوم الإنسانية طابعها الراهن. بل إنه يجمد كل وضع اتخذته هذه العلوم خلال تلك الفترة، ويتأمل كل مرحلة انتقالية؛ لأن بناءها يبدو له متماسكا، ولأنه يسقط من حسابه عناصر التحول والتغير الكامنة في كل مرحلة؛ لكي يحتفظ بهيكل بنائي ساكن يراه أنه هو المميز حقا لكل مرحلة.
ففي عصر النهضة نرى بناء أساسيا واحدا يسود جميع المجالات، ويعبر عنه فوكو بفكرة الفك الكري
La Sphére ؛ فالمعارف كلها موحدة، ومقولة التشابه والتماثل هي السارية على جميع الميادين، والمعرفة ذاتها متناهية مقفلة دائرية، ومثل هذا التصور لعصر النهضة يعتمد في الواقع على الاستشهاد بآراء شخصيات ثانوية في ذلك العصر؛ ولذلك التجأ فوكو في كثير من المواضع إلى آراء شخصيات مغمورة، محققا بذلك هدفين: أولهما أن يبهر القارئ بمعارفه الواسعة وقراءاته المستفيضة، فيجتذب بذلك أولئك الذين لا يبحثون في الفكر إلا عن تبحر صاحبه
अज्ञात पृष्ठ