ولست حمارا يا سيدي مهما يكن رأيك في وفي ذلك الشيخ، أو قل كنت حمارا قبل أن أعبر البحر، فلما دخلت هذا الفندق، وصعدت إلى هذه الغرفة وأويت إلى هذا السرير، وانغمست في فراشه الوثير، وأدركني ما أدركني من النوم العميق، وأيقظتني هذه الفتاة ذات الوجه المشرق والثغر المضيء والحديث الحلو والروح الخفيف، نظرت فإذا أنا لم أبق حمارا، وإذا أنا قد مسخت إنسانا أو قل صورت إنسانا إن كانت كلمة المسخ لا ترضيك، ولكني على كل حال قد دخلت النوم حمارا وخرجت منه إنسانا يحس ويشعر ويعقل ويذوق لذة الجمال ويعرف كيف يستمتع بسحر العيون. أصبحت إنسانا، وذكرت قصة الأخطل، فعفت شراب الحمار، وآليت لا أرد الظمأ إلا بمثل ما رده به الأخطل، ولا تغضب يا سيدي ولا تثر، فأنا في بلد قلما يشرب أهله الماء، ولقد شهدت غداء الناس وعشاءهم ودهشت حين سألني الخادم ماذا أريد أن أشرب، فلما طلبت إليه الماء أظهر دهشا لم يكن أقل من دهشتي حين ألقى علي سؤاله، ثم أقبل علي بالماء، وبعد لحظة حدق النظر في، ثم قال: ألا يريد سيدي شيئا من النبيذ؟ فلما أبيت قال متبسطا في لغة أهل الجنوب ولهجتهم: «سيدي مخطئ فالماء لا ينقع الغليل هنا»، ثم انطلق وعاد إلي بعد لحظة ومعه دورق وفيه نبيذ، ونظرت فلم أر الماء في حجرة الطعام كلها إلا على مائدتي، فاستحييت وشربت كما يشرب الناس، وكنت أحسب أن الخادم إنما يرغبني في النبيذ ترويجا لتجارة الفندق، فلما فرغت من طعامي عرفت أن الناس يشربون النبيذ في هذا الفندق كما يشربون الماء لا يدفعون له ثمنا، أو هم يؤدون ثمنه فيما يؤدون من ثمن الغداء والعشاء، آليت إذا يا سيدي ألا أرد الظمأ بشراب الحمار، وأزمعت أن أدفعه بهذا الشراب الذي لم أنتظر قدومي إلى فرنسا لأعرفه وهو الجعة، فأدق الجرس وأنتظر أن يطرق الباب وأن يفتح وأن تدخل علي هذه الفتاة. ومن يدري! لعلي لم أزدر الماء ولم أفكر في قصة الأخطل ولم أبتغ هذا الشراب الحرام إلا تعلة لأدق هذا الجرس، ولتدخل علي هذه الفتاة، وليكون بينها وبيني طرف من حديث يقصر أو يطول، فقد جعلت أتهم نفسي في كل ما آتي وفي كل ما أريد منذ استيقظت ظهر اليوم، وإني لأتبين أن منظر هذه الفتاة وعذوبة حديثها وخفة روحها وحسن خدمتها ودخولها علي مع الصبح وإذنها للشمس أن تغمر غرفتي، كل هذا هو الذي بطأني عن باريس وحبب إلي المقام في هذا الفندق، فأنا إذا فكرت أو قدرت أو هممت أو فعلت، أسأل نفسي لعل من وراء هذا التفكير والتقدير، ولعل من وراء هذا الهم والفعل غرضا خفيا غير ما توخيت من الأغراض الظاهرة، والباب يطرق وأنا أعلن الإذن بصوت مرتفع تظهر فيه اللهفة وقليل من الاضطراب، والباب يفتح، ولكن ماذا أرى! أرى رجلا شابا قد أقبل فاترا متثاقلا وقال في صوت خافت يملؤه الكسل والسأم والضيق: سيدي يريد؟ قلت وأنا أتكلف كظم ما يملؤني من الغيظ وإخفاء ما لا أشك في أنه ظهر على وجهي وفي عيني من خيبة الأمل، قلت وكأني ألقيت في وجهه ما قلت إلقاء: أريد زجاجة من الجعة، قال: نعم، صغيرة أم كبيرة؟ قلت مغضبا: أكبر ما عندك، ثم انصرف عني وعاد إلي بزجاجته وقدحه، فلما هم أن ينصرف قلت: فقد أحتاج إلى أخرى، وما أحب أن أشق عليك حين يتقدم الليل. قال مبتسما: إن سيدي لظريف، ولكن عندي ما يريد سيدي، ثم مضى وعاد بإناء فيه الثلج وفيه زجاجة أخرى من الجعة، وتمنى لي ليلا سعيدا، وأغلق من دونه الباب.
ولعلك تنكر أيها الصديق إقبالي على الشراب، وعلى الشراب خاليا، وعلى الشراب بعد أن كذب الظن وخاب الأمل. ولكن ما رأيك في أن كذب الظن وخيبة الأمل هما اللذان دفعاني إلى الشراب دفعا، فقد وجدت على الحظ وسخطت على الزمان، وأبيت أن أذعن لمكر الأقدار وغدر الظروف، وأقسمت ألا أذوق النوم حتى أرى وجه هذه الفتاة المشرق وثغرها المضيء وأسمع حديثها الحلو وأستمتع بروحها الخفيف. وأي شيء أعون على السهر من الشراب والتفكير فيها والكتابة إليك! لا تغضب، فما كنت لأكتب إليك لولا أن أخلف الحظ ظني وكذب أملي، واضطرني إلى أن أستعين بك على الليل في مرسيليا، كما كنت أستعين بك على الليل في القاهرة. لا تغضب، فقد عرفتني أوثر الصدق على الكذب، وأكره أن أغشك أو أخفي عليك ما أجد، ولو خيرني الحظ بين زيارة هذه الفتاة لحظة قصيرة تهدأ لها نفسي الثائرة وتستقر لها خواطري المضطربة، ثم آوي إلى السرير لأنام، وبين لقائك أو الكتابة إليك، لما ترددت في أن أرجئ لقاءك والكتابة إليك إلى غد حين يشرق النهار وتملك النفس صوابها كله وأمنها كله، ويفكر العقل في غير فتور ولا قلق ولا اضطراب. ما أظن أنك سترضى عن هذا الكتاب، فليس فيه شيء يرضيك، وليس فيه شيء يرضيني. وما كتبت إليك لأرضيك ولا لأرضي نفسي، وإنما كتبت إليك انتظارا لمطلع الشمس.
ما أسرع ما تتغير نفس الإنسان! بل ما أسرع ما تغيرت نفسي! فصدقني أني أنكرها أشد الإنكار، ولا أكاد أصدق أن هذه النفس التي كانت هائمة بحميدة، محزونة بل جزعة لفراقها، نادمة أشنع الندم وأبشعه على ما قدمت إليها من مساءة واقترفت في ذاتها من إثم - لا أكاد أصدق أن هذه النفس التي لم تكن تذوق النوم إلا غرارا «مثل حسو الطير ماء الثماد» كما يقول شاعرك القديم، قد نسيت أو كادت تنسى حميدة وفراقها وطلاقها، ومحيت منها أو كادت تمحى صورة حميدة قائمة في غرفتنا تلك تنهل دموعها الصامتة. لقد كانت هذه الصورة تؤرقني الليل، وتنغص علي النهار، ويملأ سنوحها لي قلبي فرقا وذعرا، فأنا الآن أنتظرها فلا تسنح لي، وأدعوها فلا تستجيب لي، وألح في الدعاء وفي الاستحضار فأتمثلها شاحبة واجمة، وكأني أستحضر روحا من أرواح الموتى. وهي لا تثبت بعد أن أجهد نفسي في دعائها واستحضارها، وإنما تمر بي مرا سريعا كأنها الطيف.
كيف انتقلت من طور إلى طور، وكيف تغيرت من حال إلى حال! أكنت خيرا فأصبحت شريرا أم كنت شريرا أتكلف الخير، فلما بلغت هذا البلد ألقيت عن نفسي أعباء التكلف وأثقاله وظهرت لنفسي كما أنا، لا متحفظا ولا منافقا؟ أم ماذا؟ إني لفي حيرة لا أعرف لها حدا، ولكني على ذلك كله راض عن نفسي بعض الرضا، بل كل الرضا. أترى أني أسأت حين قطعت ما بيني وبين حميدة من الأسباب؟ هبني لم أفعل، أفكان ما بيني وبين حميدة من الصلة يعصمني من الشر الذي أنا مدفوع إليه، أم كنت أدفع إلى الشر دفعا وأقترف الإثم اقترافا لا أحفل بحميدة ولا بحبها ولا بهذا العهد المؤكد الذي قطعته لها بالوفاء؟ فأنا مدفوع إلى الشر ما في ذلك شك، وأنا عاجز عن المقاومة، وأنا أسأل نفسي دون أن ألح عليها في السؤال: أليس يمكن أن تكون هناك قوة خفية ماكرة قد دفعتني إلى ما وراء البحر لألقى في هذه الأرض الغريبة كيدا يدبر وأمرا يراد، ولأكون نهبا لشياطين الإثم والغواية والفساد؟ أنا ألقي على نفسي هذا السؤال منذ رأيت وأن أرد إلى الصواب من أمري، وأن أتبين ما أنا مقدم عليه. ولست أريد أن أتبين ما أنا مقدم عليه الآن، وإنما أريد أن أتبين الشر إن كان هناك شر بعد أن أتورط فيه، لماذا؟ لست أدري. ولكني لست أستطيع أن أقف ولا أن أتأخر، إنما أنا شيء قذفت به قوة عنيفة من قمة الجبل فهو يتدحرج على السفح لا يستطيع أن يمسك نفسه ولن يستطيع أن يمسك نفسه، حتى يبلغ الحضيض فتمسكه الأرض السهلة المستوية، أكنت ملحا في طلب البعثة رغبة في العلم الذي كنت أزينه لنفسي، أم رغبة في هذه الأبواب من الفتنة التي لم أكن أستطيع أن أستفتحها في مصر، والتي لست أحتاج أن أستفتحها في فرنسا لأنها تفتح لي وحدها؟
ماذا أقول أيها الصديق! أتراني جننت أم تراني سكرت؟ كلا! لست مجنونا ولا سكران، وهاتان الزجاجتان لم أمسهما، وإني لأتبين كل ما حولي، وإني لأعرف أني أكتب إليك، وإني لأستطيع أن أنبئك من أمرنا بما لا يحسن المجانين أن ينبئوا به. ولست مجنونا ولا سكران، ولكني عاقل محكم العقل واضح الرأي صافي الذهن، أنظر في المرآة فأرى نفسي منكرة بشعة، وأخجل منها حين أنظر إليها أكثر من خجلي منك حين أكتب إليك. نعم لست مجنونا ولا سكران، ولكني رجل يزدري نفسه أشد الازدراء ويمقتها أبشع المقت. وكيف تريدني ألا أزدري نفسي وأنا لا أكاد أرى خادما مبتذلة تحمل إلي الطعام وتبسم لي وتتحدث إلي، كما تحمل الطعام لعشرات من أمثالي وتبسم لهم وتتحدث إليهم، بالصوت نفسه وباللهجة نفسها وبالدعابة نفسها، لا أكاد أراها مع هذا كله حتى يجن بها جنوني ويفتن بها قلبي، وأرجئ من أجلها الرحلة إلى باريس، وأقضي من أجلها الليل مسهدا أرقا، أستعين على انتظارها وعلى انتظار الصبح بالكتابة والشراب!
لست مجنونا ولا سكران، بل لست أدري من أنا ولا ما عسى أن أكون، لقد زعمت لك منذ حين أني كنت حمارا قبل أن أعبر البحر فردتني هذه الفتاة إنسانا، فصدقني! إني لا أرى نفسي إنسانا! ولا أعرف من أي نوع أنا بين الأنواع الخسيسة الدنيئة من الحيوان.
إلى اللقاء أيها الصديق! لا أحب أن أطيل في هذا الحديث فإني أخشى أن أخرج من طوري، وأن أدفع إلى هذا الجنون الذي أنكره وأبرأ منه.
إلى اللقاء! لو أني عقلت وأحكمت أمري لانصرفت عنك إلى هذا السرير الذي يدعوني إلى الراحة والنوم، ولكني أعلم حق العلم أني لن أستريح ولن أنام، وأني سأقضي الليل إن أويت إلى فراشي لعبة لصورتين مختلفتين أشد الاختلاف، إحداهما تخيفني حتى تبلغ بي أقصى الخوف، والأخرى تغريني حتى تنتهي بي إلى غاية الإغراء. إحداهما حميدة البائسة، والأخرى هذه الفتاة الخادم التي لا أعرف من أمرها شيئا إلا أنها جميلة رشيقة حلوة الحديث خفيفة الروح، تحمل الطعام وتبسم للأضياف، كلا! كلا! إني لأكذب عليك وأكذب على نفسي، إني لأعرف من أمرها أكثر من هذا قليلا: إن اسمها «فرنند».
إلى اللقاء أيها الصديق! لأشغلن نفسي عنك وعن هاتين الصورتين بمصارعة هاتين الزجاجتين، فإما أن تصرعاني فأستريح حتى توقظني هذه الفتاة من الغد، وإما أن أصرعهما فليس الجرس ببعيد. وما علي إذا أزعجت الخادم وكلفته أن يحمل إلي زجاجة أو زجاجتين!
إلى اللقاء!
अज्ञात पृष्ठ