بسم الله الرحمن الرحيم
(الملك الحق المبين، وما توفيقي إِلا بالله)
قال أَبو بكر محمدُ بن القاسم بن بشَّارٍ الأَنباريُّ النحويّ: الحمد لله حقَّ حمدِه، على ما أَوْلَى من نِعمه وفَضْلِه، وظَاهَر من آلائه وَطوْله. والصَّلاةُ على خيرِ خَلْقه، أَبي القاسم خاتِم رُسُله، والأَمينِ على وَحْيِه، والدَّاعي إِلى أَمرِه، والسَّلامُ على الطّيّبين من آله وصحبِه.
هذا كتاب ذِكْر الحروف التي تُوقِعُها العربُ على المعاني المتضادّة، فيكونُ الحرفُ منها مؤدِّيًا عن معنييْن مختلفيْن، ويَظُنُّ أَهلُ البِدَع والزَّيْغ والإِزْرَاء بالعرب، أَنَّ ذلك كان منهُمْ لنُقْصان حكمتهم، وقلَّة بلاغتهم، وكثرة الالْتباس في محاوراتهم، وعند اتّصال مخاطباتهم، فيَسْأَلُون عن ذلك، ويحتجُّون بأنَّ الاسم مُنبِئ عن المعنى الَّذي تحته ودالٌّ عليه، ومُوضِحٌ تأْويلَه، فإِذا اعتورَ اللفظةَ الواحدة معنيان مختلفانِ لم يَعْرِف المخاطَب أَيَّهما أَراد المخاطِب،
1 / 1
وبَطَل بذلك معنى تعليق الاسمِ على المسمّي.
فأُجيبوا عن هذا الَّذي ظنُّوه وسأَلوا عنه بضُروبٍ من الأجوبة: أَحدُهنّ أَنَّ كلامَ العرب يصحِّح بعضُه بعضًا، ويَرتبِط أَوَّلُه بآخره، ولا يُعْرَفُ معنى الخطابِ منه إِلاَّ باستيفائه، واستكمال جميع حروفه، فجاز وقوعُ اللَّفظَةِ على المعنييْن المتضادَّيْن، لأَنَّها يتقدَّمُها ويأْتي بعدَها ما يدلُّ على خصوصيَّةِ أَحد المعنييْن دون الآخر، ولا يُراد بِها في حالِ التكلُّم والإِخبار إِلاَّ معنًى واحد؛ فمن ذلك قول الشَّاعِر:
كلُّ شَيْءٍ ما خَلاَ المَوْتَ جَلَلْ ... والفَتَى يَسْعَى ويُلْهِيه الأَمَلْ
فدلّ ما تقدَّم قبل جلل وتأَخَّر بعده على أَنَّ معناه: كلُّ شيءٍ ما خَلا الموت يَسيرٌ؛ ولا يتوهَّم ذو عقل وتمييز أَنَّ الجَلَلَ هاهنا معناه عظيم. وقول الآخر:
يا خَوْلَ يا خَوْلَ لا يَطْمَحْ بِكِ الأَمَلُ ... فقد يُكَذِّبُ ظَنَّ الآمِلِ الأَجَلُ
يا خَوْلَ كَيْفَ يَذُوقُ الخفضَ معترِفٌ ... بالموتِ والموتُ فيما بَعْدَهُ جَلَلُ
فدلَّ ما مضى من الكلام على أَنَّ جللا معناه يسيرٌ.
1 / 2
وقول الآخر:
فَلَئِنْ عَفَوْتُ لأَعْفُوَنْ جَلَلًا ... ولَئِنْ سَطَوْتُ لأُوهِنَنْ عَظْمِي
قَوْمِي هُمُ قَتَلوا أُمَيْمَ أَخِي ... فإِذا رَمَيْتُ يُصِيبُني سَهْمِي
فدلَّ الكلامُ على أَنَّهُ أَراد: فلئن عفوتُ لأَعفونَّ عفوًا عظيمًا، لأنَّ الإِنسان لا يفخر بصفحه عن ذنب حقير يسير؛ فلمَّا كان اللَّبس في هذين زائلًا عن جميع السامعين لم ينكَرْ وقوعُ الكلمة على معنيين مختلفين في كلامين مختلفَي اللَّفْظين. وقالَ الله ﷿، وهو أصدق قيل: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ أَراد: الذين يتيقنون ذلك، فلم يذهب وهْمُ عاقل إِلى أَنَّ الله ﷿ يمدح قومًا بالشكّ في لقائه، وقالَ في موضع آخر حاكيًا عن فرعون في خطابه موسى: إنِّي لأَظُنُّكَ يا مُوسَى مَسْحُورًا. وقالَ تعالى حاكيًا عن يونس: وَذَا النُّونِ إذْ ذَهَبَ مُغَاضبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدرَ عَلَيْهِ، أراد: رَجَا ذلك وطمع فيه، ولا يَقُولُ مسلِم إِنَّ يونسَ تيقَّنَ أَنَّ الله لا يقدر عليه. ومَجْرَى حروف الأَضْدادِ مجرى الحروف التي تقعُ على
1 / 3
المعاني المختلفة، وإِنْ لم تكُنْ متضادَّة، فلا يُعرَف المعنى المقصودُ منها إِلاَّ بما يتقدَّم الحرفَ ويتأَخَّر بعده ممَّا يُوضِحُ تأْويله، كقولك: حَمَل، لولد الضّأْنِ من الشّاء، وحَمَل اسم رجل، لا يعرف أَحدُ المعنيين إِلاَّ بما وصفنا. وكذلك يتلمَّظَان، ويَقومُ عَبْدِ اللهِ؛ لا يُعْرَفُ أَنَّ شيئاُ من هذا منقول عن معناه إِلى تسمية الرّجال به إِلاَّ بدليلٍ يُزيل اللَّبْس عن السامعين؛ فمن ذلك ما أَنْشدنا أَبو العباس، عن سلَمة، عن الفَرَّاءُ:
إِذا ما قيلَ أيُّ الناس شَرٌّ ... فشرُّهُمُ بَنو يَتَلَمَّظانِ
جعل يتلمّظان اسمًا لرجل. وأَنشدنا أَبو العباس أَيْضًا:
خُذُوا هذهِ ثمَّ استعِدّوا لمثلِها ... بَنِي يَشْتهي رُزء الخليل المُناوِب
جعل يشتهي، وما بعده اسمًا لرجل. وأَنْشَدَنا أَبو العباس، عن سَلَمة، عن الفَرَّاءُ، عن الكِسائيّ:
1 / 4
وكنتُ ابنَ عَمٍّ باذلًا فوَجدْتكُمْ ... بَني جُدَّ ثَدْياها عليَّ ولا لِيا
جعل جُدَّ ثَدْياها اسمًا. وأَنْشَدَنا أَبو العباس، عن سلَمة، عن الفَرَّاءُ، عن الكِسائيّ:
أَعَيْرُ بَني يَدِبُّ إِذا تَعَشَّى ... وعَيْرُ بَنِي يَهِرُّ على العَشاءِ
جعل يهِرّ ويدِبّ اسمين. وكذلك غَسقَ، يقع على معنييْن مختلفين للعلة التي تقدّمت،: أَحدُهما أَظْلَمَ، من غَسَقِ الليل، والآخر سالَ من الغَساق، وهو ما يَغْسِقُ من صَديد أَهل النار، قال عُمارة بن عَقيل:
تَرَى الضَّيْفَ بالصَّلْعاءِ تغْسِقُ عَيْنُهُ ... مِنَ الجوعِ حتَّى تحْسِبَ الضَّيْفَ أَرْمدا
وقالَ عمران بن حِطّان:
إِذا ما تذكَّرْتُ الحياة وطيبَها ... إليّ جَرَى دَمْعٌ من العَيْنِ غاسِق
أَي سائل. والجميل: الرجل الحسَن، والجميل: الشحْم المُذاب، يعرف معناهما بما وصفناه.
والزِّبْرِج: الأَثَر، والزِّبْرِج: السحاب الرقيق. والحَلَمة: رأْس الثّدي، والحلَمة: نبات ينبت في السهل.
1 / 5
والأُمّة: تُبَّاع الأَنبياء، والأُمّة: الجماعة، والأُمّة: الصالح الَّذي يؤتم به، والأُمّة: الدِّين، والأُمّة: المنفرد بالدِّين، والأُمّة: الحين من الزمان، والأُمّة: الأُمّ، والأُمّة: القامة؛ وجَمْعُها أُمَم؛ قال الأَعشى:
وإنَّ مُعاوِية الأَكْرَمينَ ... حِسانُ الوُجوهِ طِوالُ الأُمَمْ
في أَلفاظ كثيرة يطول إحصاؤها وتعديدها، تُصْحِبُها العربُ من الكلام ما يدلّ على المعنى المخصوص منها. وهذا الضرب من الأَلفاظ هو القليل الظريف في كلام العرب. وأَكثر كلامهم يأْتي على ضربيْن آخرين:
أَحدُهما أَن يقع اللفظان المختلفان على المعنييْن المختلفين؛ كقولك: الرجل والمرأَة،
والجمل والناقة، واليوم والليلة، وقام وقعد، وتكلّم وسكت؛ وهذا هو الكثير الَّذي لا يُحاط به.
والضرب الآخر أَن يقع اللفظان المختلفان على المعنى الواحد، كقولك: البُرّ والحنْطة، والعَيْر والحمار، والذّئب
1 / 6
والسِّيد، وجلس وقعد، وذَهب ومضى. قال أَبو العباس عن ابن الأَعْرَابِيّ: كلُّ حَرْفين أَوْقعتْهُما العرب على معنًى واحد؛ في كلّ واحد منهما معني ليس في صاحبه، ربَّما عرفناه فأَخْبَرْنا به، وربَّما غَمُض علينا فلم نُلْزِم العربَ جهله.
وقالَ: الأَسماءُ كلّها لعلة؛ خَصّت العربُ ما خصّتْ، منها من العلل ما نعلمه، ومنها ما نجهلُه. وقالَ أَبو بكر: يذهب ابن الأَعْرَابِيّ إِلى أَن مكّة سُمْيت مكّةَ لجذْب الناس إليها، والبَصْرة سميت البصرة للحجارة البيض الرِّخوة بها، والكوفة سُمِّيت الكوفة لازْدحام الناس بها، من قولهم: قد تَكوَّف الرملُ تكَوُّفًا، إِذا ركبَ بعضُه بعضًا، والإِنسانُ سمّي إنسانًا لنسيانه، والبهيمة سُمْيت بهيمة لأنها أُبْهِمَتْ عن العقل والتمييز، من قولهم: أَمْرٌ مُبْهَمٌ إِذا كان لا يعرف بابُه. ويُقَالُ للشجاع: بُهْمة، لأَنَّ مُقاتله لا يَدْري من أَيّ وجه يُوقِع الحيلَة عليه. فإِن قال لنا قائل: لأَيّ علّة سُمِّي الرجلُ رجلًا، والمرأَة امرأَةً، والموْصل الموصِلَ، ودعد دعدا؟
1 / 7
قلنا: لعلل علمتْها العرب وجهلناها، أَو بعضها، فلم تَزُلْ عن العرب حكمةُ العلم بما لحقنا من غموض العلة، وصعوبة الاستخراج علينا.
وقالَ قطرب: إنما أَوقعت العرب اللفظتين على المعنى الواحد ليدلّوا على اتساعهم في كلامهم، كما زاحفوا في أَجزاء الشِّعْر، ليدلّوا على أَنَّ الكلام واسعٌ عندهم، وأَنَّ مذاهبه لا تضيق عليهم عند الخطاب والإطالة والإِطناب. وقول ابن الأَعْرَابِيّ هو الَّذي نذهب إليه، للحجّة التي دَللْنا عليها، والبرهان الَّذي أَقمناه فيه.
وقالَ آخرون: إِذا وقع الحرفُ على معنيين متضادّين، فالأَصلُ لمعنًى واحد، ثمَّ
تداخل الاثنان على جهة الاتساع. فمن ذلك: الصّريم، يُقَالُ لليل صَريم، وللنهار صَريم، لأنُ الليل ينصرِم من النهار، والنهار ينصرِم من الليل، فأَصلُ المعنيين من باب واحد، وهو القَطْع.
وكذلك الصارخ المغيث، والصارخ المستغيثَ؛ سمِّيا بذلك لأَن المغيث يصرُخُ بالإِغاثة، والمستغيثَ
1 / 8
يصرُخ بالاستغاثة؛ فأَصلهما من باب واحد. وكذلك السُّدْفَة: الظلمة، والسّدفة: الضَّوْءُ، سُمِّيا بذلك لأَنَّ أَصلَ السُّدْفة السِّتْر، فكأنَّ النهار إِذا أَقبل ستر ضوءه ظُلْمَة اللَّيل، وكأَنَّ الليلَ إِذا أَقبل سترت ظلمتُه ضوءَ النهار. والجَلَل: اليَسير، والجَلَل: العظيم، لأنَّ اليسيرَ قد يَكُونُ عظيمًا عندما هو أَيْسر منه، والعظيم قد يَكُونُ صغيرًا عند ما هو أَعظم منه.
والبعضُ يَكُونُ بمعنى البعض والكُلّ، لأنَّ الشَّيْء كُلَّه قد يَكُونُ بعضًا لغيره. والظَّنُّ يَكُونُ بمَعْنَى الشكّ والعلم، لأنَّ المشكوك فيه قد يُعْلَم. كما قيل راجٍ للطّمِع في الشَّيْء، وراجٍ للخائف، لأَنَّ الرجاءَ يقتضي الخوفَ إذْ لم يكن صاحبُه منه على يقين، قال الله ﷿: وتَرْجونَ مِنَ الله ما لا يَرْجونَ، فقال الكلبيّ، عن أَبي صالح، عن ابن عباس: معناه: وتخافون من الله ما لا يخافون. وقالَ الفَرَّاءُ: العرب لا تذهب بالرّجاء مذهبَ
1 / 9
الخوف إِلاَّ مع الجَحْد، كقولهم: ما رجوت فلانًا، أَي ما خفته، قال الله ﷿: ما لَكُمْ لا تَرْجونَ لله وَقارًا، فمعناه: لا تخافون لله عظمة. وقالَ أَبو ذُؤَيْب:
إِذا لسعتْه النَّحْلُ لم يَرْجُ لَسْعَها ... وَحالفَها في بَيْت نُوبٍ عَوامِلِ
أَراد: لم يخَفْ لَسْعَها. وقالَ أَبو بكر: ويروى: خالفها، بالخاء معجمة. وفي النُّوب قولان: أَحدُهما أَنَّها تضرب إِلى السواد، بمنزلة النُّوبة من الحَبَشة. والقول الآخر: النُّوب جمع نائب، وهو الرّاجع. وقالَ الهاشميّ عُبَيْدَة بن الحارث - قُتِلَ مع حمزة يوم أُحُد:
لَعَمْرُكَ ما أَرْجو إِذا مُتُّ مُسْلِمًا ... على أَيّ جَنْبٍ كان في الله مَصْرَعي
معناه ما أَخاف.
1 / 10
وأَنشد يونس البصريّ:
إِذا أَهلُ الكرامةِ أَكرموني ... فَلا أَرْجو الهوانَ مِنَ اللِّئامِ
وأَنْشَدَ الفَرَّاءُ:
ما تَرْتَجي حينَ تُلاقي الذَّائدا ... أَسَبْعَةً لاقتْ معًا أَم واحدا
أَراد: ما تخاف.
قال أَبو بكر: فكلام العرب في الرجاء على ما ذكر الفَرَّاءُ. وقالَ المفسِّرون خلاف ما روى الكلبيّ في المعنى الَّذي أَبطل صحتَه الفَرَّاءُ: وترجون من ثواب الله وتطمعون من حسن العاقبة والظَّفَر والغلَبة لأعدائكم فيما لا يَطْمع أَعداؤُكم، ولا يؤمَّلون مثلَه. وقالَ آخرون: إِذا وقع الحرفُ على معنيين متضادين، فمحالٌ أَن يَكُونُ العربيّ أَوقعه عليهما بمساواةٍ منه بينهما ولكنّ أَحد المعنيين لحيٍّ من العرب، والمعنى الآخر لحيٍّ غيره، ثمَّ سَمِعَ بعضُهم لغَة بعض، فأَخذ هؤلاء عن هؤلاء، وهؤلاء عن هؤلاء، قالوا: فالجَوْن الأَبيض في لُغَة حيٍّ من العرب، والجَوْن الأَسود في لُغَة حيٍّ آخر،
1 / 11
ثمَّ أَخذ أَحد الفريقين من الآخر، كما قالت قريش: حَسِبَ يَحْسِبُ.
وأَخبرنا أَبو العبَّاس، عن سلمة، عن الفرَّاء، قال: قال الكِسَائِيّ: أَخذوا يحسِب بكسر السِّين في المستقبل عن قوم من العرب يقولون: حَسب يَحْسِب، فكأَنَّ حَسِبَ من لغتهم في أَنفسهم، ويحسِب لغة لغيرهم، سمعوها منهم فتكلَّموا بها، ملم يقع أَصلُ البناء على فَعِل يَفْعِل.
وقالَ الفرَّاء: قوَّى هذا الَّذي ذكره الكِسَائِيّ عندي أنِّي سمعت بعضَ العرب يَقُولُ: فَضِلَ يفضُل.
قال أَبو بكر: يذهب الفَرَّاءُ إِلى أنَّ يفعُل لا يَكُونُ مستقبلًا لفَعِل، وأَنَّ أَصل يفضُل
من لغة قوم يقولون: فَضَل يفضُل، فأَخذ هؤلاء ضمّ المستقبل عنهم.
وقالَ الفَرَّاءُ: الذين يقولون: مِتّ أَموت، ودِمْت أَدوم، أَخذوا الماضيَ من لغة الذين يقولون: مِتّ أَمات، ودمْت أَدَام، لأَنَّ فَعِل لا يَكُونُ مستقبله يفْعُل على صحّة. قال أَبو بكر: فهذا قول ظريف حَسَن.
1 / 12
وقد جَمَع قومٌ من أَهل اللُّغة الحروفَ المتضادَّة، وصنَّفوا في إِحصائها كتبًا، نظرت فيها فوجدت كلَّ واحد منهم أَتى من الحروف بجزء، وأَسقط منها جزءًا، وأَكثرهم أَمْسَكَ عن الاعتلال لها، فرأَيت أَن أَجمعها في كتابنا هذا على حَسَب معرفتي ومبلغ علمي؛ ليستغنِيَ كاتبُه والناظر فيه عن الكتب القديمة المؤلَّفة في مثل معناه؛ إِذا اشتمل على جميع ما فيها، ولم يُعْدَمْ منه زيادَةُ الفوائد، وحسنُ البيان، واستيفاءُ الاحتجاج، واستقصاءُ الشواهد.
وأَنا أَرغب إِلى الله في حسن المعونة على ذلك، وأَسأَلُه التَّوفيق للصَّواب؛ وكمال الأَجر، وجزيل الثواب.
1 / 13
١ - فأوّل ذلك الظَنّ يقع على معانٍ أَربعة: معنيان متضادَّان: أَحدُهما الشكّ، والآخر اليقين الَّذي لا شكَّ فيه. فأَمَّا معنى الشكّ فأَكثر من أَن تُحْصَى شواهدُه. وأَمَّا معنى اليقين فمنه قول الله ﷿: وأَنَّا ظَننَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ في الأَرْضِ ولَنْ نُعْجِزَهُ هرَبًا، معناه عَلِمْنَا. وقالَ جلَّ اسمه: ورَأَى المُجْرِمُونَ النَّارَ فظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها، معناه فعلِموا بغير شكّ، قال دُرَيْد، أَنشدناه أَبو العباس:
بأَن تَغْتَزُوا قَوْمي وأَقعدَ فيكُم ... وأَجْعَلَ مِنِّي الظَّنَّ غَيْبًا مُرَجَّما
معناه: وأَجعل منِّي اليقين غيبًا، وقالَ عديّ بن زيد:
أُسْنِدُ ظَنِّي إِلى المَلِيكِ ومَنْ ... يَلْجَا إِلَيْه فلَمْ ينَلْه الضّرّْ
1 / 14
معناه: أُسْنِدُ علمي ويقيني. وقالَ الآخر:
رُبَّ هَمٍّ فَرَّجْتُه بعَزِيمٍ ... وغيوبٍ كَشَّفْتُها بظُنُونِ
معناه: كشفتها بيقين وعلم ومعرفة؛ والبيت لأَبي دواد. وقالَ أَوْس بن حَجَر:
فَأَرْسَلْتُه مُسْتَقِينَ الظَّنِّ أَنَّهُ ... مخالطُ ما بين الشَّراسِيف جَائفُ
معناه: مستقِين العلم. والمعنيان اللَّذان ليسا متضادَّين: أَحدُهما الكذب، ولآخر التّهمة، فإِذا كان الظنّ بمَعْنَى الكذب قلت: ظَنَّ فلان، أَي كَذَب، قال الله ﷿: إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ، فمعناه: إِنْ هُمْ إِلاَّ يكذبون؛ ولو كان على معنى الشكّ لاستوفَى منصوبَيْهِ، أَو ما يقومُ مقامَهما. وأَمَّا معنى التّهمة فهو أَن تقول: ظننت فلانًا، فتستغنيَ عن الخبر، لأَنَّكَ اتَّهمته، ولو كان بمَعْنَى الشكّ المحْض لم يُقْتَصرْ به على منصوب واحد.
ويُقالُ: فلان عندي ظَنِين، أَي متَّهم، وأَصله مَظْنون، فصرِف عن مفعول إِلى فعيل، كما قالوا: مطبوخ وطبيخ، قال الشَّاعر:
1 / 15
وأَعْصِي كلَّ ذِي قُرْبَى لَحَاني ... بجَنْبك فَهْو عندي كالظَّنينِ
وقالَ الله ﷿: ومَا هُوَ على الغَيْنِ بِظَنِين، فيجوز أَن يكون معناه: بمتَّهم. ويجوز أَن يكون معناه: بضعيف، من قول العرب: وَصْلُ فلان ظَنون، أَي ضعيف، فيكون الأَصل فيه: وما هو على الغيب بظَنون، فقلَبوا الواو ياءً، كما قالوا: ناقةٌ طَعُوم وطَعِيم، للَّتي بين الغَثَّة والسَّمينة؛ في حروف كثيرة يطول تعديدها وإِحصاءها.
وقالَ أَبو العباس: إنَّما جاز أن يقع الظّن على الشَّكّ واليقين؛ لأَنه قولٌ بالقلْب؛ فإِذا صَحَّت دلائل الحق، وقامت أَماراتُه كان يقينًا، وإِذا قامت دلائلُ الشَّكّ وبطلتْ دلائلُ اليقين كان كَذِبًا، وإِذا اعتدلت دلائلُ اليقين والشَّكّ كان على بابه شَكًّا لا يقينًا ولا كذبًا.
٢ - وقال بعض أَهل اللُّغة: رجوت حرف من الأَضداد. يكون بمَعْنَى الشَّكّ والطَّمع،
ويكون بمَعْنَى اليقين؛ فأَمَّا معنى الشَّكّ والطّمع فكثير لا يحاط به؛ ومنه قول كَعْب ابن زهير:
1 / 16
أَرْجُو وآمُلُ أَنْ تَدْنُو مودَّتُها ... ومَا إِخالُ لدينا منكِ تَنْوِيلُ
معناه: وما لدينا منك تنويل، وإِخال: لغو. وأَما معنى العلم فقوله: فَمَنْ كان يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّه فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا. معناه: فمن كان يعلم لقاء ربّه فليعمل عملًا صالحًا. وقولهم عندي غير صحيح؛ لأَنَّ الرَّجاءَ لا يخرج أَبدًا من معنى الشَّكّ، أَنشدنا أَبو العباس:
فَوَا حَزَنَى ما أَشْبَهَ اليأْسَ بالرَّجَا ... وإِنْ لَمْ يكونا عِنْدَنا بِسَواءِ
والآية التي احتَجُّوا بها لا حجَّة لهم فيها؛ لأَنَّ معناها: فمن كان يرجو لقاءَ ثوابِ ربّه، أَي يطمع في ذلك ولا يتيقَّنه.
وقالَ سهل السَّجسْتَانيّ: معنى قوله: فَمَنْ كان يَرْجُو لقَاءَ رَبِّه: فمن كان يخاف لقاءَ ربِّه. وهذا عندنا غَلَط؛ لأَنَّ العرب لا تذهب بالرَّجاء مذهب الخوف إِلاَّ مع حروف الجَحْد؛ وقد استقصينا الشواهد لهذا.
ويقال: ارتجيت ورجَّيت بمعنًى؛ قال الشَّاعر:
1 / 17
فَرَجِّي الخَيْرَ وانْتَظِري إِيابي ... إِذا مَا القارِظُ العَنَزِيُّ آبا
وجاءَ في الحديث: لوْ وُزِنَ رجاءُ المُؤمن وخوفه بميزان تَرِيصٍ لاعْتَدَلا، معناه: بميزان مُقَوَّم، يقال: قد تَرَّصَ الميزانَ إِذا قوَّمه، قال الشَّاعر:
قَوَّمَ أَفْواقَها وتَرَّصَها ... أَنْبَلُ عَدْوانَ كلِّها صَنَعَا
أَنبل عَدْوَانَ، معناه: أَحذقُهم بصنعة النَّبْل. وقالَ النَّابِغَة الذُّبْيَانِيّ:
مَجَلَّتُهُمْ ذَاتُ الإِلهِ وَدِينُهُمْ ... قَوِيمٌ فما يرجُون غَيْرَ العَوَاقِبِ
يقال: معناه فما يطمعون في غيرها. ويقال: معناه: فما يخافون غيرَها، ومَجَلَّتهم: كتابُهم، ويروى: محَلَّتُهم، بالحاء. وكنانة وخُزاعة ونَضْر وهُذَيْل يقولون: لم أَرْجُ،
يريدون: لم أُبَالِ.
فإِنْ قال قائل: إِنَّ معنى قول الله ﷿: قالَ
1 / 18
الَّذينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللهِ، يظنون أَنَّهم ملاقو ثواب الله، كان ذلك جائزًا. والظَنّ بمَعْنَى الشَّكّ.
ولا يبطل بهذا التَّأْويل قولُ من جعل الظَنّ يقينًا، لأَنَّ قوله: أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ في الأَرْضِ، لا يحتمل معنى الشَّكّ، والظِّنَّة عند العرب الشَّكّ، ولا تُجعل في الموضع الَّذي يراد به اليقين، قال الشَّاعر:
إِنَّ الحَمَاةَ أُولِعَتْ بالكَنَّهْ ... وأَبَتِ الكَنَّةُ إِلاَّ ظِنَّهْ
والظّنون أَيْضًا لا يستعمل إِلاَّ في معنى التُّهَمة والضعف، قال الشَّاعر:
أَلاَ أَبْلِغْ لَدَيْكَ بَنِي تَمِيمٍ ... وقد يأْتيكَ بالرَّأْي الظَّنُونُ
أَي المتَّهَم أَو الضعيف. ويقال في جمع الظِّنَّة الظنائن، قال الشَّاعر:
تُفَرِّقُ مِنَّا مَنْ نُحِبُّ اجْتماعَهُ ... وتَجْمَعُ مِنَّا بَيْنَ أَهْلِ الظَّنَائِنِ
ويروى:
تُبَاعِدُ مِنَّا مَنْ نُحِبُّ اجْتماعَهُ ... وتَجْمَعُ مِنَّا. . . . . . . . . .
1 / 19
ولا يجمع من هذا الباب على فعائل إِلاَّ ما كان فيه إِدغام أو اعتلال؛ كقولهم: حاجة وحوائج؛ قال الشَّاعر، أَنشده الفرَّاء:
بَدَأْنَ بِنَا لاَ رَاجِياتٍ لِرَجْعَةٍ ... ولاَ يائِسَاتٍ مِنْ قَضَاءِ الحَوائجِ
وأَنْشَدَ أَبو العباس:
إِنَّ الحَوائجَ ربَّما أَزْرَى بها ... عِنْدَ الَّذي تُقْضَى لهُ تَطْوِيلُهَا
وأَكثر ما تقول العرب في جمع الحاجة: حاجات وحاج وحِوَج، أَنشد الفرَّاء:
أَلا لَيْتَ سُوقًا بالكُنَاسَةِ لم يَكُنْ ... إِليها لِحاجِ المسلمين طريقُ
أَراد لحوائج المسلمين. وأَنْشَدَ أَبو عُبيدة:
ومُرْسِلٍ ورَسُولٍ غَيْرِ مُتَّهَمٍ ... وحَاجَةٍ غير مُزْجَاةٍ من الحَاجِ
أَراد غير ناقصة من الحوائج، والمَزْجاة المسوقة، تقول: أَزجيت مطيَّتِي أَي سُقْتُها، قال الله ﷿: بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ. وقال الآخر يهجو عَبْدِ اللهِ بن الزُّبير:
أَرى الحَاجاتِ عِنْدَ أَبي خُبَيْبٍ ... نَكِدْنَ ولا أُمَيَّةَ بالبِلاَدِ
1 / 20