بولس المراني
فخفق فؤاد يوسف لهذه التوصية، وقال في نفسه: هل يصدق هذا أو يمين؟
ثم قال لصديقه نجيب: إني أمتن جدا لفضل عمك، ولا أدري كيف يحق له أن يكتب هذه الفقرة وهو لا يعرفني؟ - يقول: إنه عرف أهليتك جيدا، وقد حاول أن يقنع المدير بردك إلى وظيفتك في البنك الأميركاني فلم ينجح. - لا بد أن يكون قد علم بعدئذ سبب عزلي. - من طبع عمي تقليل الكلام، وتحاشي القال والقيل؛ ولهذا لم يبحث كثيرا في الأمر، وجل ما علمه أن بعض الموظفين في قلم الترجمة كانوا يتذمرون من وجودك، والظاهر أنهم أقلقوا المدير بالشكوى منك. - ألم يقل عمك ماذا كانت شكواهم؟ - يظهر أن لا شكوى حقيقية لهم، وإنما الحسد - قاتله الله. - هل يعتقد عمك ذلك؟ - هذا ما فهمته منه، ولو كنت قد أخبرته بشيء من ذلك قبل صدور أمر المدير لقاوم مقاصدهم، فلماذا لم تتردد إليه؟ - لم أعرف أنه عمك إلا بعد حين.
الجارة الرسولة
عاد يوسف إلى غرفته مرتاح النفس من جهة مسترزقه؛ لأنه أمل أن يحصل على الوظيفة في مصلحة التنظيم، على أن حادث ذلك المساء شغل كل لبه وقلبه.
كان في الأيام التي مرت يتناسى تلك الذات التي احتفرت منزلا في فؤاده، حتى كاد ينساها، ولكن حادث المركبة كان كلفحة هواء هبت على جذوة نار خابية تحت الرماد، فسفت الرماد عنها وجعلت تضرمها حتى ألهبتها.
لم يهجع يوسف تلك الليلة؛ لأنه كان كلما أغمض جفنيه متوسلا إلى الكرى لاح في مخيلته طيف تلك الذات، وقال للكرى: «لا يسع هذا الحيز اثنين في وقت واحد، فإما أنت وإما أنا.» فكان الكرى نافرا والطيف أنيسا.
وكان ذهن يوسف يتعقل تلك الذات فيراها تترقى رويدا رويدا، حتى ملأت فضاء خياله، وأخيرا قال في نفسه: «أين أهل الثرى من أهل الثريا؟» ثم عاد ذهنه من ذلك الفضاء الواسع وهو يتعثر بين هضبات الآمال، فيرقى هضبة من رجاء ثم ينحدر إلى وهدة من يأس.
قد يود القارئ أن يطلع على كل ما دار في خلد يوسف تلك الليلة؛ لكي يدرس فيه فلسفة الحب، ولكن لو طلبنا إلى يوسف أن يدون ذلك على الورق ما بقي في هذا الكتاب محل للحكاية.
كانت مخيلة يوسف تلك الليلة كالسينماتوغراف، تبدي وتعيد كل حادث ذي علاقة بالفتاة من حادث الترام الأول إلى حادث المركبة الأخيرة، وكان يقف عند كل حادث ويوسع نفسه لوما؛ لأنه أساء التصرف، ففي الترام خاشنها، وفي الطريق قرب منزلها تجسس عليها، وفي منزلها جافاها، وفي سبلندد بار نافرها، وفي حادث المركبة الأخير قلل الأدب؛ لأنه لم يرافقها حتى منزلها كحارس لها؛ لئلا يحدث لها في الطريق حادث آخر؛ أو لئلا يتعذر عليها الصعود إلى المنزل؛ أو لئلا يجزع أهلها لمباغتتها إياهم متألمة محتاجة إلى من تتوكأ عليه لتصعد.
अज्ञात पृष्ठ