صارت الساعة الثانية بعد نصف الليل، وهو على هذه الحال، وكان الليل هادئا لم يقلق هدوءه إلا دوي الأوتوموبيلات حينا بعد آخر، وقل دوي قطار المطرية.
وما كادت عينه تهجع حتى أيقظته صرخة كأنها كانت في أذنه، فنهض مبغوتا، ونظر من شباكه، فرأى في شرفة المنزل المقابل له شبحين، ولكنهما لم يرياه؛ لأن غرفته كانت مظلمة، فأنعم النظر جيدا وأصغى فسمع مثل بكاء فتاة وخطاب امرأة.
وقد اعتاد يوسف أن يترك الشباك مفتوحا؛ لكي يتجدد الهواء في غرفته دائما، فأنصت جيدا للحديث، فسمع في هدوء الليل معظم الحديث بل كله هكذا: انهضي يا شقية إلى غرفتك. - دعيني هنا وحدي. - تموتين من برد الليل. - أود أن أموت. - قصف الله عمرك فإنك بليتي، قومي ادخلي. - قلت لك: لا أدخل وهذا هنا. - لماذا لا تدخلين؟ هل هو حوت يلتهمك؟ - بل هو ذئب مفترس فلا أكون حيث يكون. - هو في غرفته وأنت في غرفتك. - لا أسكن في منزل هو فيه. - هل نطرده؟ - إذن لم يكن في وسعك أن تطرديه فاطرديني. - لقد دفع أجرة غرفته مقدما، فلا أقدر أن أطرده. - أنا عالمة أنك لا تقدرين أن تطرديه؛ لأننا كلتينا مقيمتان في منزله. - من قال لك يا شقية: إن هذا منزله، وأنت تعلمين أنه مستأجر؟ - من أين لك مال حتى تقطني منزلا كهذا وتقني هذا الفرش النفيس؟ - هذا لا يعنيك. - بل يعنيني؛ لأن المال منه فلا أريد أن أعيش بمال دنس. - اصمتي يا شقية وادخلي.
ورأى يوسف أن المرأة قد أمسكت الفتاة بيدها، وهمت أن تدخلها بالقوة، فحاولت الفتاة أن تصرخ فوضعت المرأة يدها على فم الفتاة لتمنعها من الصراخ، ورأى يوسف حينذاك رجلا قد اغترف الفتاة ودخل، وعند ذلك أقفل الشباك، ولم يعد يوسف يرى شيئا أو يسمع صوتا، وكان المنزل مظلما.
إن ما يدور في خلد القارئ الآن دار في خلد يوسف حينذاك. •••
انهزم الكرى من عيني يوسف؛ لأنه قلق على تلك الفتاة، وصار يود أن يعلم ماذا يكون مصيرها في تلك الليلة في ذلك المنزل.
فكر قليلا، ثم نهض ولبس ثوبه وخرج من المنزل بكل هدوء، وصعد إلى السطح وطاف عليه، فوجد في المنزل جناحا يقرب جدا من المنزل الآخر، فلاح له أن يثب وثوبا من سطح إلى سطح، ولكن خاف أن يكون لوثبته رجة في السطح توقظ السكان، وقد عثر على السطح بحطام سرير من خشب مرمية عليه فتناول لوحا وألقاه على السطحين وعبر عليه، وجعل يطوف على السطح الآخر بكل هدوء، وكان كلما خطا خطوتين انحنى فوق شباك من شبابيك المنزل، وأصغى إلى أن بلغ إلى نقطة كان يسمع عندها من الشباك الذي تحته كلاما مختلطا ومثل بكاء ممتزج بسخط، فقال في نفسه: لا بد أن تكون هذه الفتاة فريسة، وأنا المسئول عن خلاصها؛ لأني الوحيد الذي عرف بأمرها.
ثم جعل يفكر في كيف يستطيع أن يسمع الحديث الجاري. •••
ولابد أن يتوق القارئ أن يعلم ما كان جاريا في ذلك المنزل مما لم يعلمه يوسف.
في تلك الدقيقة كانت الفتاة والمرأة في إحدى غرف المنزل، ولا نور في الغرفة إلا نور مصباح بترول ضئيل جدا، وكانت الفتاة تنحب والمرأة تقول لها: إنك غبية لا تعرفين مصلحتك، وقد قضيت خمسة عشر عاما وأنا أربيك وأعدك لمستقبل مجيد زاهر، فلما أقبل مجدك جعلت تنبذينه ... - أي مجد هذا؟ - أليس مجدا لك أن تكوني ساكنة القصور ورافلة بالدمقس والحرير، وحالية بالألماس والحجارة الكريمة، وآمرة بالخدم؟ - لا أتنغص لمجد لم أتعوده ولم أحلم به. - إذا كنت أنت غبية تجهلين مصلحتك، فأنا أتولى أمرك وعليك أن تطاوعيني فلا تندمي، لا تخاشني فهيما فإنه يحبك ويفعل كل ما ترومينه لسرورك، وقد ... - إن الصلة بهذا الرجل تروعني، فلا تقربيه مني ولا تقربيني منه. - يا لله لماذا تروعك الصلة به، وهو لا يدخر وسعا في إرضائك؟ أما أهدى إليك اليوم ...؟ - لا تذكري هديته، فهو يبتغي أن يقتنصني بها. - غريب أمرك، لا أدري لماذا تؤولين هديته بالقصد السيئ، وهو لا يضن بأي برهان على أنه يحبك؟ - يتمادى بمداعبتي.
अज्ञात पृष्ठ