قالت ليلى وهي وأهلها جلوس إلى مائدة الطعام: من هذا الفتى يا أخي نجيب؟
فأجاب نجيب: يدعى يوسف براق، وقد تعرفت به في باريس حين كنت أمتحن في الحقوق، فكان لي صديقا ودودا، وكنت أستلذ عشرته لسمو آدابه وسعة معارفه.
فقالت ليلى وهي تستعيد في ذهنها حادثة الترام: لا تدل ملامحه على شيء من ذلك. - لم تريه جيدا حتى يحق لك أن تحكمي على ملامحه من مجرد رؤيتك له لمحة، مع أن كل نظرة منه تدل على قاموس لغة أو دائرة معارف. - يا لله أراك تغالي كثيرا في محاسن هذا الفتى. - لا أبالغ إذا قلت: إنه فيلسوف؛ لأنه يعرف الإنكليزية والإفرنسية كأهلهما ، ويعرف العربية كأبلغ الكتاب، ومع ذلك فمعارفه اللغوية ليست شيئا في جنب معارفه العلمية والفلسفية. - إذا كان كما تقول أفليس عجيبا أن يترك أوروبا - مهد العلم ووطن الأعمال - ويأتي إلى مصر؟ - يلوح لي أنه سيئ الحظ من العالم؛ لأن أخلاقه ومزاجه وتربيته لا تقدره على حسن الجهاد لأجل الحياة، فهو حر الضمير وصادق الطوية وقويم المبادئ أكثر من اللازم لهذا الجهاد، وروح الاجتماع الحاضر تحسب هذه الصفات جرائم، والمدنية الحالية تعاقب ذويها بنكد الطالع، وإذا أضفنا إلى ذلك عصبية مزاجه وحدة طبعه اتضح لنا السبب في عدم توفقه في أوروبا، وإيثاره امتحان بخته في مصر. - غريب أن يكون عصبي المزاج وهو بدين. - وهو شديد العضل أيضا، فإذا غالب الدب غلبه، ولكنه يتحاشى أن يتقاوى على نملة.
وكان نجيب يتمادى بهذا الحديث، وهو لا يدري أنه يغرس به غرس حب في فؤاد أخته ليلى، وبعد سكوت هنيهة قالت ليلى: إذا كان هذا الفتى لم يوفق إلى مسترزق يرضيه في أوروبا، حيث يعلم الناس أقدار الناس، فهل يؤمل أن يجده في مصر؟ - تقلب في أشغال كثيرة في باريس ولندن، حتى إنه اشتغل في التأليف والتحرير، لكن ضعف رأيه في تدبير أموره وفي تصرفه مع الناس في ميدان المزاحمة والمناظرة كان يفضي دائما إلى فشله، فنصحت له أن يرحل إلى مصر، حيث يقل مزاحموه إلى الوظائف العالية لعظم أهليته، والآن أرشدته إلى البنك الأميركاني، ونصحت له أن يصعد على سلم الارتقاء درجة درجة، وسأبحث مع عمي بولس رئيس قلم الترجمة في هذا البنك عسى أن يستطيع التوسط له، ولم أشأ أن أذكر له شيئا من هذا القبيل قبل أن أرى عمي لأعلم ماذا يقول.
بعد الغداء اختلت ليلى في غرفتها خلافا لعادتها.
نشوة الغرور
في الساعة الثالثة من اليوم التالي كان يوسف براق في حضرة مدير البنك الأميركاني، فقال له المدير: إذا صدق ما كتبته في عريضتك كان لك عندنا وظيفة، فهل أنت مستعد للامتحان؟ - إذا شئت فتفضل به الآن.
فاستدعى المدير رجلا كهلا، وقال له: أود أن تمتحن هذا الفتى بالترجمة من اللغات الثلاث وإليها.
فتبع يوسف ذلك الرجل الكهل إلى مكتبه، وبعد أن تخاطبا باللغتين الإنكليزية والفرنساوية، دفع إليه الرجل ورقة مكتوبة بالإنكليزية، وقال: هذه رسالة كتبتها الآن إلى أحد العملاء، فأود منك أن تترجمها إلى الإفرنسية والعربية، وهذه رسالة أخرى بالعربية أود أن تترجمها إلى الإنكليزية والفرنساوية.
فقرأ يوسف الرسالتين ثم تناول ورقة، وبعد أن كتب قليلا طوى الورقة ووضعها في ظرف، وختمه ودفعه إلى ذلك الرجل قائلا: أود أن تأمر بإرسال هذا الظرف إلى جناب المدير.
अज्ञात पृष्ठ