ولم يستطع رغم هذا التقتير والشح على نفسه وعلى بنيه أن يجمع شيئا من المال يساوي العيشة الضنك التي يعيشها هو وابنه وابنتاه.
ذهب حيدر في ذلك اليوم إلى صديقه بيومي رمضان، وروى له الحوار الذي دار بينه وبين أبيه، وعجب أن بيومي لم يدهش، بل قال: إن فعل أبوك غير هذا فلا يكون عم عبيد الذي نعرفه. - لك حق، ولكن كيف استطاع أن يصل إلى هذا التفكير؟ المهم ما الحل؟ - لا حل إلا أن تعتمد على نفسك. - كيف؟ - اسرح معي. - ماذا أفعل؟ - ما أفعله. - يا أخي أنت تشتري إردبين ذرة أو قمحا أو شعيرا قبل موعد الحصاد بثمن بخس ممن ضاقت بهم الحياة واضطروا إلى مال قبل الحصاد، وتبيع ما تشتري بعد الحصاد وتكسب شيئا هائفا، ولا يكاد ما تكسبه يكفيك؛ ومع ذلك تريدني أن أسرح معك! - جرب حظك. - ومن أين لي برأس المال؟ - أي مبلغ. - أنت تعرف البير وغطاه. - أسلفك في العملية الأولى. - على بركة الله.
وحدث فعلا ما توقعه بيومي، وبدأ حيدر يكسب صبابات من المال استطاع في نهاية العام أن يكتنز منها عشرين جنيها. وخيل إليه أنه أصبح من الأثرياء؛ فعشرون جنيها كانت تعني شيئا ذا شأن؛ وخاصة لابن عبيد الكيالي.
قال: بيومي، ما رأيك؟ - الحمد لله. - ليس هذا ما أسألك فيه. - إذن ماذا تريد؟ - ألا تكفي هذه الجنيهات لتجعلني أتزوج؟ - ولم لا؟! على أن تختار فتاة فقيرة يريد أهلها أن يزوجوها لأي أحد مهما يكن فقيرا وأبوه عم عبيد الكيالي. - وأنا لا يهمني من تكون. وهل تتصور أن أكون ابن عمك عبيد الذي لا يجهل أحد بخله وأضع شروطا للزوجة التي تقبلني؟! - توكل على الله. - أتعرف واحدة؟ - أعرف. - انطق. - زنوبة. - بنت حميدة بائعة الفجل. - ما عيبها؟ - والله نعم الاختيار. ثم إن البنت أيضا ليست قبيحة قبحا يدعو إلى النفور. - على العكس، بيضاء وقوامها حلو. - على بركة الله. - هيا نذهب إلى أبيك ليخطبها لك. - وأبي ما شأنه بهذا. - إنه أبوك مهما كان شحيحا جلدة. - لو طلبت منه ذلك سيرفض طبعا. - قل له إنك ستدفع المهر من جيبك. - ولو. أليست ستعيش معنا في البيت وستكلفه المأكل والمشرب. لقد زوج خيرية وروحية قبل أن يبلغا السادسة عشرة ليتخلص من طعامهما وشربهما. - اسمع. - ماذا؟ - هيا بنا إلى خالتك حميدة مباشرة، وما فيه الخير يقدمه ربنا.
وفعلا قدم الله سبحانه الخير لحيدر، وقبلت حميدة زواجه من زنوبة، ولكنها توسلت إليه: اسمع يا حيدر، أنا وزنوبة ليس لنا رجل، وأنا والحمد لله أكسب طعامي ولا أطمع فيك، ولكني أرجوك أن تعيش معنا في البيت حتى لا أصبح وحدي إذا أخذت أنت بنتي الوحيدة.
وفكر حيدر قليلا. ولم لا؟! إنني بهذا سأكون قد أرضيت أبي كل الإرضاء. وأنا الآن عرفت طريقي بتسويق بضعة الأجولة من الحبوب، وأستطيع أن أنفق على نفسي وعلى زوجتي، وأمها أيضا إذا اقتضى الأمر. وحينئذ لن يجد أبي سببا في منعي من الزواج. - والله القول قولك يامه حميدة.
وذهب إلى أبيه، وقبل أن يكمل حديثه قال أبوه: ألم تجد إلا بنت حميدة.
وأكمل حيدر متغاضيا عن اعتراض أبيه: ومعي مهرها، وسنعيش في بيت أمها.
ولم يمهله أبوه بل سارع: والله ونعم الاختيار؛ خذوهم فقراء يغنكم الله. - أطال الله عمرك. - والفرح من سيدفع تكاليفه؟ - ولا فرح ولا يحزنون. ثلاث زجاجات شربات وكم نفر من الأعيان ودمتم. وأنا الذي سأشتري الشربات. وتم الزواج. •••
ومرت عليه ثلاث سنوات دون أن تنجب زنوبة له طفلا، وكان هو قد مرن على العمل في سوق الغلال، ولكن في كميات غاية في الهوان والضآلة؛ ولهذا لم يكن عجيبا أن يعيش حياة فيها كثير من الاقتصاد إذا أشفقنا أن نقول فيها كثير من الضيق.
अज्ञात पृष्ठ