أما المعنى الآخر للميل إلى الفكاهة، وهو سعة الصدر والطاقة على تقبل الاختلاف ، فربما كان مصدره لدى المصريين طول معاشرتهم للأجانب وطبيعة نظرتهم للإنسان أيا كانت صورته، وهي نظرة إبداعية في جوهرها؛ فالمصري عندما يشاهد غريبا أو ما هو غريب عليه، يضعه في إطار مختلف ويقبله داخل هذا الإطار، بل هو يحاول أن يوسع من أبعاد هذا الإطار حتى يجعله مرنا متعدد الألوان، بل وكثيرا ما ينسج حوله أطرا أخرى تضفي على غرابته طرافة تؤكد «المسافة» التي تفصله عنه؛ ومن ثم تيسر له قبوله.
وهذه «المسافة» هي العنصر الفاصل الذي يفرق بين الكوميديا والتراجيديا؛ إذ لا يضحك الإنسان إلا على ما هو غريب أو من هو غريب عنه، و«الضحك» منه في ذاته حكم عليه، وقد يقترب الحكم من الإدانة أو يقتصر على تأكيد الخطأ أو الزلل فحسب؛ ومن ثم كانت الكوميديا سلاحا حادا يستخدمه الإنسان في محاربة النقائص والعيوب، وهو مذهب جاد من مذاهب المسرح الرفيع بشتى ألوانه التي سبق أن تعرضت لها في كتابي «فن الكوميديا» (1980م) مثل كوميديا الموقف، وكوميديا الشخصية، وكوميديا الكاريكاتير وما إلى ذلك، فالإنسان، كما قيل بحق، يضحك بعقله، ولولا عقل الإنسان ما ضحك؛ لأن ضحكه يقوم على إدراك معين، والكاتب المسرحي يحرص على توفير مقومات هذا الإدراك في صورة فنية متماسكة لها معنى موحد. ومن ثم قد لا يقهقه المتفرج وقد لا يجلجل ضحكه وهو يشاهد إحدى الكوميديات العالمية؛ لأن المعنى يمس عمقا بعيد الغور في نفسه يبقي على الضحك داخليا لا تدل عليه إلا البسمات الخافتة.
ولذلك كان الكتاب الساخرون جادين - من فكري أباظة ومحمد عفيفي إلى محمود السعدني وأحمد رجب وأحمد بهجت - وكذلك رسامو الكاريكاتير وكتاب المسرح، بل والشعراء؛ واستمع إلى حافظ إبراهيم:
قد غدا القوت في يد الناس كاليا
قوت حتى نوى الفقير الصياما
ويخال الرغيف في البعد بدرا
ويظن اللحوم صيدا حراما
إن أصاب الرغيف من بعد كد
صاح من لي بأن أصيب الإداما
بل إن العقاد نفسه (شيخ الجد) لم يخل ديوانه من السخرية! أما الهزل الذي نراه اليوم على مسارحنا فهو لون من ألوان التهرؤ الفني الذي لا أعرف والله كيف أصفه. إنه يثير الضحكات ولا شك، وهو يثيرها بطرق غليظة لا تتطلب الكثير من إعمال العقل، ولكنه يفتقر إلى الرؤى الموحدة التي ترفعه إلى مصاف المسرح الحقيقي، ولا يمكن بدون الرؤية الموحدة أن يكون للعمل معنى فني.
अज्ञात पृष्ठ