كانت هناك مدرسة المنفلوطي في الترجمة الأدبية، وهي مدرسة تقوم على الاقتباس. ولا أظن أن مصطفى لطفي المنفلوطي كان يعرف لغات أجنبية. وكنا نقرأ ونسمع أنه كان يختار رواية مترجمة ترجمة عادية ناقصة في البلاغة، فيصبها بتصرف كبير في لغته البليغة التي اشتهر بها في «النظرات» و«العبرات». وهكذا خرجت روائع الأدب الغربية مثل «ماجدولين» و«بول وفرجيني» و«في سبيل التاج».
ثم كانت هناك مدرسة محمد السباعي وعباس حافظ، وهذه اقتربت من الترجمة كما نعرفها، فقد كان هذان الأديبان يتقنان الإنجليزية أو الفرنسية ويترجمان عنهما رأسا، ولكن ببلاغة تكاد تضارع بلاغة المنفلوطي. غير أنهما كانا أسيرين لبعض أساليب البلاغة العربية؛ كالسجع والجناس والطباق وغير ذلك من عناصر البيان والبديع، فكانا يضيفان إلى العبارات معاني ليست فيها، أو يحذفون منها معاني من أجل حسن الجرس والجزالة العربية. وربما أضفنا إلى هذين الأديبين أحمد لطفي جمعة المحامي. وقد كان لهؤلاء الثلاثة فضل تعريفنا في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات بقصص موباسان وتشيكوف وغيرهما.
وهكذا لم تكن الدقة أو ما نسميه «الأمانة» في النقل هي الاعتبار الأول في الترجمة، بل كانت بلاغة التعبير. فإذا كان النص في القصة يقول باختصار: إن البطل قبل البطلة، كان عباس حافظ يقول: «فطبع قبلة دون حس على فم الكونتيس»! ومنذ أوائل القرن علمنا المترجمون أن نقول إن شعار الثورة الفرنسية كان «الحرية والإخاء والمساواة» بدلا من أن نقول إنه كان: «الحرية والمساواة والإخاء». تقول: وما الفرق؟ وما ضرر هذا التقديم والتأخير؟ أقول إن معناه أن الفرنسيين دعوا إلى تقديس «المساواة» قبل تقديس «الإخاء»، بكل ما يترتب على ذلك من مبادئ المساواة أمام الله وأمام القانون، والمساواة في المواطنة وفي الحقوق والواجبات، والمساواة في حقوق الإنسان. هذه المساواة قدمها الفرنسيون على الإخاء كما قدموا الحرية على المساواة؛ لأنه بالحرية يحصل الناس على المساواة، وبالمساواة يتحقق الإخاء بين البشر. أما في العربية فقد عدل المترجمون هذا الشعار لتستقيم العبارة مع أصول الخطابة؛ حيث الجملة ينبغي أن تنتهي بنهاية ممدودة لا بنهاية مكتومة. وهكذا ضحوا بالمعنى من أجل الفصاحة.
ولعل أرقى ما بلغته هذه المدرسة الأدبية في الترجمة البليغة كانت ترجمات أحمد حسن الزيات لرواية «آلام فيرتر» لجوته، وترجمته ل «رافاييل» و«البحيرة»، و«جرانز نييلا» للامارتين، وهي من روائع الشعر الفرنسي التي لم نكن نكف عن قراءتها في أوائل الثلاثينيات. كان الزيات أرقى أبناء مدرسة الترجمة الأدبية هذه؛ لأنه جمع بين جمال الصياغة دون افتعال، والاقتراب من النص ما أمكن ذلك. أما خليل مطران فكان كثيرا ما يضيف عبارات رنانة لا وجود لها في الأصل؛ لتدوي على المسرح من أفواه الممثلين كما في ترجمته ل «هاملت» شكسبير؛ فإذا كان الأصل يقول: «أقسم» أضاف مطران: «وإنه لقسم لو تعلمون عظيم». في سبيل «الإيفيهات» كان كل شيء مباحا، كأنما المترجم يريد أن يشارك المؤلف في الإبداع.
ومع تقدم الثلاثينيات تطورت الترجمة الأدبية تطورا كبيرا بفضل جهود الدكتور محمد عوض محمد مترجم الجزء الأول من «فاوست» لجوته، وبفضل أحمد الصاوي محمد مترجم «تاييس» لألفونس دوديه، و«الزنبقة الحمراء» لأناتول فرانس. وبهما انتهى عهد البلاغيات وحلت محل البلاغة اللفظية قوة الأسلوب عند محمد عوض محمد، ورشاقة العبارة عند أحمد الصاوي محمد، مع الاهتمام بالأمانة في النقل.
ولم تكن هذه كل مدارس الترجمة التي عرفتها مصر؛ فقد عرفت مصر منذ رفاعة الطهطاوي مدرسة أخرى تميزت بالأمانة والرصانة معا، وهذه هي المدرسة التي ازدهرت بترجمات فتحي زغلول لبعض أعمال ديمولان «سر تقدم الإنجليز السكسون»، وجان جاك روسو «إميل أ والتربية الاستقلالية»، وجوستاف ليبون «روح الحضارات». وهذه المدرسة أثمرت لغة القانون والقضاء والتشريع بوجه عام، ولغة الفكر التاريخي والفلسفي، كما نجده في ترجمة طه حسين لكتاب زينوفون «الدستور الأثيني»، وترجمات لطفي السيد لكتب أرسطو: «السياسة» و«الأخلاق» و«الكون والفساد». كل هذه ترجمات تتسم بالدقة وبالعبارة المحكمة البعيدة عن الزخرف اللفظي الذي كانت تتميز به الترجمات الأدبية.
وأخيرا فقد كانت هناك مدرسة الترجمة الصحفية. وكانت سمتها الأولى السلاسة في التعبير، سواء تقيدت بالدقة أم لم تتقيد بها. ولست أقصد بالترجمة الصحفية ترجمة الأخبار والمواد الصحفية على وجه التخصيص، وإنما أقصد كل ترجمة روعي فيها أن تكون سائغة للجماهير الواسعة التي لا تملك الوقت ولا الاهتمام ولا القدرة على الأناقة اللفظية. وهذه هي المدرسة التي نقلت فيها المئات والمئات من الروايات الشعبية؛ مثل «الفرسان الثلاثة» و«الكونت دي مونت كريستو» و«جزيرة الكنز»، وهي آثار أدبية جماهيرية، أو الروايات البوليسية؛ مثل «شرلوك هولمز» و«اللص الشريف» و«أرسين لوبين» ... إلخ، وقد كانت مدرسة السلاسة في الترجمة والكتابة أوسع المدارس انتشارا وأقواها تأثيرا على مسار اللغة العربية وتطويرها في القرن الأخير، وهي المدرسة التي صاغت لغة الجرائد بما فيها من أخبار وريبورتاجات ومقالات صحفية، وهي أساس اللغة الوسطى التي نستخدمها اليوم، الوسطى بين لغة الكتابة ولغة الكلام: لغة مرنة واضحة، أقدر على التعبير عن الحياة اليومية من اللغة الأدبية، ولكنها أفقر منها في عناصر الفن والشاعرية والجمال.
وقد أدى انتصار لغة الصحافة منذ الحرب العالمية الثانية إلى نتائج هامة في مسار اللغة العربية: أدى أولا إلى اختفاء «المقال» كمظهر من مظاهر النثر الفني؛ المقال كما كان يكتبه العقاد والمازني وطه حسين، وعامة أصحاب الأساليب في العشرينيات والثلاثينيات، اختفى في زمننا، أو كاد. وبالمثل فقد سادت الرثاثة العامة لغة الترجمة الأدبية منذ الحرب العالمية الثانية حتى ظهرت ترجمة الدكتور حسن عثمان ل «الكوميديا الإلهية» لدانتي في الستينيات، فاعتدل الميزان.
وبعد نحو عشرين سنة من صدور «الكوميديا الإلهية» أصدر الدكتور محمد عناني، أستاذ الأدب الإنجليزي بكلية الآداب، ترجمته للكتب الستة الأولى من ملحمة الفردوس المفقود للشاعر الإنجليزي الكبير جون ميلتون (1608-1674م) في جزأين، فأحيا بذلك تقاليد الترجمة الأدبية التي افتقدناها، منذ ترجمات الزيات وأحمد الصاوي محمد ومحمد عوض محمد وطه حسين وحسين عثمان. وقد جمعت ترجمة محمد عناني بين الأمانة الأكاديمية وجزالة العبارة، فجاء عمله تحفة في الترجمة وفي الأدب جميعا. وهو يستحق منا أصدق التحية؛ لأنه جدد لنا تقاليد الترجمة كفن جميل، وكل ما نرجوه أن تتاح له ترجمة الكتب الستة الثانية الباقية من هذه الملحمة؛ حتى يضع أمام قراء العربية عمل ميلتون كاملا.
وقد قدم محمد عناني لملحمة «الفردوس المفقود» بمقدمة ضافية، تعين القارئ على الإلمام بالخلفية التاريخية التي خرج منها عمل ميلتون العظيم، كما تعينه على فهم المضمون الديني الخاص بالثورة البيوريتانية التي جسدها ميلتون في هذا الأثر الخطير. وقد أظهر محمد عناني في هذه المقدمة فهما نافذا لطبيعة الصراعات الدنية والطبقية التي خضبت وجه إنجلترا بدماء الحرب الأهلية نحو منتصف القرن السابع عشر بين دعاة الملكية المطلقة من أصحاب المذهب الكاثوليكي وما يسمى بالكنيسة الإنجليركانية العليا القائمة على نفوذ الأساقفة وكبار رجال الدين من جهة، وبين دعاة الكنيسة الشعبية المطلقة من البروتستانت، سواء أكانوا من المشيخيين «أتباع كالفن»، المؤمنين بالجبر، أو من البيوريتان أو المتطهرين المؤمنين بالاختيار.
अज्ञात पृष्ठ