القاهرة ، أغسطس 1998
على بحيرة مارينا
دعتني إحدى الصديقات القديمات لزيارتها في الفيلا التي تطل على بحيرة «مارينا» على الساحل الشمالي. كانت المرة الأولى التي أذهب إلى هذا المكان الجديد، الذي يرتبط في خيال الكثيرين بالطبقة الجديدة صاحبة الملايين أو البلايين. أخذت معي المايوه لأسبح في البحيرة، وكتابا أقرأ فيه إن شعرت بالملل، فأنا أعرف صديقتي منذ الدراسة في كلية الطب، وأعرف لماذا تدعوني بكل هذا الإصرار رغم فتور العلاقة بيننا منذ الانفتاح. فجأة انقلب زوجها من الحديث عن الاشتراكية والقطاع العام إلى الحديث عن الرأسمالية والقطاع الخاص.
تذكر أن خاله الباشا مات بالذبحة الصدرية بعد أن فرض عليه جمال عبد الناصر الحراسة، والأرض التي ملكتها العائلة الكريمة أخذتها الدولة، ولم يبق إلا الشقة الكبيرة في الزمالك والعمارة في المعادي، لكن الله فتح عليه منذ أيام الانفتاح الأولى، فهو يعرف دنيا المال والاستثمار، ويسافر إلى باريس ولندن وجنيف ونيويورك، ويتكلم ثلاث لغات، ينحني حين يصافحني قائلا: «أهلا نوال هانم.» كلمة هانم تخرج من بين شفتيه الرقيقتين مع دخان السيجارة الفاخر.
كان اليوم مشرقا، الشمس تتألق فوق المياه الرقراقة تلامس الشاطئ في موجات صغيرة ناعمة ناعسة، ارتديت المايوه، وأسرعت لألقي نفسي في البحيرة كالطفلة، كنت أنجذب إلى المياه الزرقاء الصافية أكثر من التحف الفاخرة التي كدستها صديقتي في الفيلا. والشبكة الثمينة المرصعة بالفصوص المشعة التي انشبكت بها ابنتها لأحد كبار التجار أو رجال الأعمال، نطقت كلمة «الأعمال» كأنها هي إحدى المقدسات الجديدة، وأسألها: ما هي هذه الأعمال؟ فترد بكلمة إنجليزية أكثر غموضا هي «البزنس».
تمددت بالمايوه على الرمال تحت أشعة الشمس، تركتني صديقتي وراحت تشرف على أمور الفيلا ووليمة الغداء، تحلو القراءة على الشاطئ وهواء البحر واليود والأكسجين تملأ الرئتين، فتحت الكتاب وبدأت أقرأ، عيناي تتركان الصفحة وترمقان الوجوه والأجسام التي تتمشى على الرمال، بنات رشيقات بالمايوه المكشوف أعلى الفخذين، وبنات سمينات مترهلات داخل الفساتين الواسعة الطويلة، رءوسهن ملفوفة بالحجاب، يتصببن بالعرق، يرمقن البنات السابحات في المياه بحسد، يختفي الحسد تحت نظرة ازدراء أو حركة امتعاض بالشفتين الممطوطتين.
لمحت وجه فتاة تلف رأسها بإيشارب أحمر، يتدلى من أذنيها قرط ضخم يلمع تحت الشمس، بشرتها بيضاء مدهونة بالأصباغ والمساحيق، شفتاها مصبوغتان بلون أحمر قان، تتعثر في ذيل فستانها الحريري الطويل، يتأرجح جسمها المربع الممتلئ فوق كعبين عاليين ينغرزان في الرمل، إلى جوارها تمشي أمها، تكاد تشبهها إلا أنها أكبر سنا، تلف رأسها بطرحة بيضاء مثل العائدات من الحج، ابتسمت الأم حين لمحتني وقالت: إزيك يا دكتورة. تذكرت ملامحها، كنت أشتري منها الجبنة البيضاء والبسطرمة، زوجها البقال اسمه محمد، مربع سمين أبيض، يكاد يشبه زوجته، كان يرتدي جلبابا، فجأة تغير البقال محمد في أيام الانفتاح، بدأت أرفف جديدة تملأ الدكان، تتكدس عليها زجاجات المياه المعدنية المستوردة، وسڤن أب، وشويبس، واللبان الأمريكي تشوجام، وارتدى محمد بدلة وحذاء جلديا أسود، بدت عليه سمات الأفندية، اتسع دكانه واشترى قطعة الأرض المجاورة، بنى عليها عمارة عالية، في الدور الأرضي أقام معرضا كبيرا للسيارات. أصبح يأتي إلى الدكان داخل سيارة مرسيدس تحول الدكان إلى سوبر ماركت، كانت ابنته طفلة، لا بد أنها هذه الفتاة التي تمشي إلى جوار أمها، سمعتها تقول لي: شفناكي في الدش يا دكتورة مع واحد شيخ مش فكره اسمه، كان عصبي شوية، لكن ليه يا دكتورة مش لابسة الحجاب؟ مش حرام كده المايوه؟
جلست الأم وابنتها معي بضع دقائق، دار الحوار عن الحرام والحلال، ترهف الابنة أذنيها المثقلتين بالقرط الضخم، ربما تستمع لأول مرة في حياتها إلى أن المايوه ليس حراما فوق شاطئ البحر، فالمفروض أن البحر للسباحة، والسباحة رياضة ممتعة من حق النساء والرجال وليس الرجال فقط.
جاء البقال محمد، الذي أصبح برونزي اللون، يرتدي «مايوه ملون»، جسده سمين مترهل، له كرش قبيح المنظر، إلا أنه يشمخ بأنفه بكبرياء ونوع من الغطرسة، قال: «أهلا يا دكتورة» بطرف لسانه. ربما لم يعجبه أن تجلس ابنته وزوجته مع امرأة ترتدي المايوه، يتحدث إليهما بلهجة خشنة، يأمرهما بالعودة إلى الفيلا، نطق كلمة الفيلا بالفاء، رنت في أذني «الفلة » مثل سدادة الزجاجة من الفلين .
أصبحت جالسة وحدي على الرمال، لم أعد قادرة على القراءة، أريد أن أتابع هذه الطبقة الجديدة التي تتحرك أمامي على شاطئ بحيرة مارينا، تكونت في السنوات العشرين الأخيرة منذ الانفتاح، منهم من أطلق عليهم اسم «القطط السمان»، رأيتهم يمشون على الشاطئ بأجسامهم السمينة القصيرة، يشبهون القطط المستأنسة في البيوت، أردافهم متهدلة، إلا أن عيونهم تلمع كعيون القطط الجائعة، سيقانهم رفيعة مشدودة، حركتها سريعة متوترة، يدخلون بها مسرعين إلى البنك المركزي، منه ينطلقون إلى مكاتب أصحاب النفوذ، في مجالات الاستثمار أو التنمية والاستيراد والتصدير، في الغرفة التجارية، وفي الغرفة المظلمة، حيث يعدون أوراق البنكنوت، ولا يمكن لهم أن يدفعوا ضرائب، فالمفروض أنهم لا يملكون شيئا، الأموال كلها ليس لها مكان، يمكن أن تطير فوق البحار إلى جزر الباهاما، أو جزر أخرى وراء الشمس والقمر، لا يمكن لأحد أن يمسكها، إلا إذا بدأ القط السمين يلعب بديله، يتحرش بالقطط الكبار، أو يتمادى ويتجاوز الحدود المرسومة، حينئذ يعلقون الجرس في عنقه، يظهر مانشيت في الصحف بالحبر الأحمر، اضبط القط السمين قبل أن يهرب خارج البلاد، أو اضبط القطة السمينة التي هربت!
अज्ञात पृष्ठ