تحاول فتحية أن ترد بلا جدوى، وماذا يمكن أن تقول، نعم يا محمد لا يمكن أن تعيش بلا وهم، وأقسى ما في مرور الزمن أنه يكشف بلا رحمة عن الوهم، والحياة بلا وهم كوجهك العجوز أمامي، كصوتك المشروخ بلا لحظة صمت، كعينك بلا لمعة، بلا لهفة، بلا شبق، بلا شهوة، بلا ارتعاشة، حين تتلامس اليد مع اليد. - تصوري يا فتحية، أنا لا أكف عن التفكير في هذه البنت مع أنها أهانتني! كل ما فعلته في حياتي لا يساوي عندها شيئا، ما دمت عاجزا عن أشتري لها شقة باسمها، أهي إهانة للرجل يا فتحية أن تشترط عليه المرأة قبل أن يدخل بها، وأن يكون هذا الشرط شقة مثلا؟! أهي تبيع نفسها لي؟ أم أنني أبيع نفسي لها لو كنت أملك ثمن الشقة؟!
صوته ينشرخ أكثر وهو يرد: لو كنت أملك ثمن الشقة ... لو ... في انشراخة صوته وهو ينطق حرف اللام والواو، تكسو عينيه سحابة حزن وانكسار، رجل بلا قيمة إلا جيبه، وجيبه فارغ من ثمن امرأة لا ترغبه إلا بعد أن يدفع الثمن، وهو يرغبها وإن اشترطت الثمن، ويرغبها أكثر كلما ارتفع الثمن الذي لا يملكه، ولا يمكن أن يملكه، وإن سرق أو باع نفسه في السوق! - تصوري يا فتحية، لأول مرة أشعر في حياتي بالإهانة.
فتحية جالسة أمامه تنظر إليه بإشفاق الأم، وهو أكبر منها بعشر سنوات، وأكبر منها في المقام، وله اسم وهي بلا اسم، وله ماض أو تاريخ يستند إليه، وهي بلا ماض وبلا تاريخ. ولا شيء تملكه إلا الوهم بأن يراها كما كان يراها وهي مملوكة لرجل آخر، وتلمع عيناه بالشبق، وتعطيه نفسها بلا شرط ولا ثمن، إلا تبادل الحب بالعدل والقسطاس على سنة الله ورسوله.
وهو جالس أمامها يحكي بصوت الابن المكلوم، يفرغ همومه في قلب الأم، يحملها فوق طاقتها العبء فوق العبء، يطهر نفسه من الأدران، يترك لها الأدران لتغسلها بلا مقابل، كالأم تعطي بلا ثمن إلا الحب.
ثم يتركها ويمضي، وهي جالسة ثقيلة القلب، تحاول عبثا أن تلقي عن نفسها العبء، أو تترك أدرانه بلا غسل، تعاف رائحة الدرن، وانحدارة رجل عجوز في نهاية العمر، يسعى بلا كلل ولا ملل إلى عروس شابة في أول العمر، لا ترى منه إلا جيبه خاليا من الثمن.
وتنهض إلى الشارع تمشي وتشم الهواء، تنظر إلى البشر. تتداخل الأشياء أمام عينيها، لا ترى الرصيف كما كانت تراه، ولا أسماء الشوارع، ولا الإعلانات أو الصور المتحركة، أهي الشيخوخة تضعف البصر، أو أنها الحياة بلا قناع وقد سقط الوهم؟
انتبهت وهي تمشي إلى لمعة في عيني رجل، شاب في عمر ابنها المهاجر ينظر إليها، تتعلق عيناها بعينيه، تهتز فوق كعبها العالي بنشوة، تتبعه بخطوها البطيء، ثم تسرع، تزداد نشاطا، يعاودها الحنين إلى العودة كما كانت، قبل أن يزول الوهم. وفي خطوها السريع تدرك أنها تسبق الزمن، وليس أمامها وقت، وأنها يمكن أن تدفع حياتها من أجل أن تعود الحياة كما كانت قبل أن يعريها الزمن.
القاهرة، مارس 1990
سقوط رئيس دولة عظمى1
جمع أوراقه الشخصية، أرصدة وصفقات غير معلنة، خطابات غرامية سرية، ميداليات وأوسمة محفور عليها اسمه وأبيه وجده نهض من وراء مكتبه البيضاوي، جسمه ثقيل على غير العادة، زوجته جالسة في البهو تنتظره، واضعة الساق فوق الساق، لم تنزل ساقها حين رأته كما كانت تفعل، يشمخ بأنفه في حركة رجولية تذكره بأبيه. - هيا بنا يا عزيزتي.
अज्ञात पृष्ठ