يَعِيشُ الْفَتَى بِالْعَقْلِ فِي النَّاسِ إنَّهُ ... عَلَى الْعَقْلِ يَجْرِي عِلْمُهُ وَتَجَارِبُهْ
وَأَفْضَلُ قَسْمِ اللَّهِ لِلْمَرْءِ عَقْلُهُ ... فَلَيْسَ مِنْ الْأَشْيَاءِ شَيْءٌ يُقَارِبُهْ
إذَا أَكْمَلَ الرَّحْمَنُ لِلْمَرْءِ عَقْلَهُ ... فَقَدْ كَمُلَتْ أَخْلَاقُهُ وَمَآرِبُهْ
وَاعْلَمْ أَنَّ بِالْعَقْلِ تُعْرَفُ حَقَائِقُ الْأُمُورِ وَيُفْصَلُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ.
وَقَدْ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: غَرِيزِيٍّ وَمُكْتَسَبٍ. فَالْغَرِيزِيُّ هُوَ الْعَقْلُ الْحَقِيقِيُّ. وَلَهُ حَدٌّ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ لَا يُجَاوِزُهُ إلَى زِيَادَةٍ وَلَا يَقْصُرُ عَنْهُ إلَى نُقْصَانٍ. وَبِهِ يَمْتَازُ الْإِنْسَانُ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ، فَإِذَا تَمَّ فِي الْإِنْسَانِ سُمِّيَ عَاقِلًا وَخَرَجَ بِهِ إلَى حَدِّ الْكَمَالِ كَمَا قَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ:
إذَا تَمَّ عَقْلُ الْمَرْءِ تَمَّتْ أُمُورُهُ ... وَتَمَّتْ أَمَانِيهِ وَتَمَّ بِنَاؤُهُ
وَرَوَى الضَّحَّاكُ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿لِيُنْذَرَ مَنْ كَانَ حَيًّا﴾ [يس: ٧٠] أَيْ مَنْ كَانَ عَاقِلًا وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ وَفِي صِفَتِهِ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى. فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ يُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ حَقَائِقِ الْمَعْلُومَاتِ. وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّهِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَحَلُّهُ الدِّمَاغُ؛ لِأَنَّ الدِّمَاغَ مَحَلُّ الْحِسِّ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَعْدِنُ الْحَيَاةِ وَمَادَّةُ الْحَوَاسِّ. وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْعَقْلِ بِأَنَّهُ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: إنَّ الْجَوَاهِرَ مُتَمَاثِلَةٌ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجِبَ بَعْضُهَا مَا لَا يُوجِبُ سَائِرُهَا. وَلَوْ أَوْجَبَ سَائِرُهَا مَا يُوجِبُ بَعْضُهَا لَاسْتَغْنَى الْعَاقِلُ بِوُجُودِ نَفْسِهِ عَنْ وُجُودِ عَقْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَوْهَرَ يَصِحُّ قِيَامُهُ بِذَاتِهِ.
فَلَوْ كَانَ الْعَقْلُ جَوْهَرًا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ عَقْلٌ بِغَيْرِ عَاقِلٍ كَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ جِسْمٌ بِغَيْرِ عَقْلٍ فَامْتَنَعَ بِهَذَيْنِ أَنْ
1 / 18