Adab al-Ikhtilaf fi al-Islam
أدب الاختلاف في الإسلام
प्रकाशक
المعهد العالمي للفكر الإسلامي
प्रकाशक स्थान
فيرجينيا - الولايات المتحدة الأميريكية
शैलियों
أدب الاختلاف في الاسلام
الدكتور طه جابر فياض العلواني
تقديم
بقلم: عمر عبيد حسنة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور انفسنا وسيئات اعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، واشهد ان لا اله الا الله وان محمدا ﷺ عبده ورسوله، وبعد:
فهذا الكتاب التاسع في سلسلة «كتاب الامة» التي تصدرها رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر «ادب الاختلاف في الاسلام» للدكتور جابر فياض العلواني، يأتي مساهمة جديدة في تحقيق الوعي الثقافي ومحاولة لراب الصدوع في البناء الاسلامي، ومعالجة جذور الازمة الفكرية التي اورثتنا الخلاف والتآكل الداخلي، وايقاظ البعد الايماني في نفوس المسلمين بعد ان كاد يغيب عن حكم علاقاتنا وتوجيهها الوجهة الصحيحة بسبب من الفهم المعوج والممارسات المخطئة ومن ضغوط المجتمعات غير الاسلامية، ذلك ان حضور البعد الايماني وتحقق الفهم السليم هو الضمانة الحقيقية لشرعية علاقاتنا، والملاذ الاخير لتصفية خلافاتنا ونزع اغلال قلوبنا. فقد يكون نصيبنا من العلم والمعرفة ليس بالقليل. لكن المشكلة التي نعاني منها اليوم اننا افتقدنا الموجه الصحيح والمؤشر الضروري الذي يمنحنا السلامة ويكسبنا الصواب لهذا العلم وتلك المعرفة، اننا اكتسبنا المعرفة وافتقدنا خلقها، وامتلكنا الوسيلة وضيعنا الهدف والغاية، وما اكثر ما فوتت علينا خلافاتنا حول مندوب او مباح امر مفروضا او واجبا، لقد اتقنا فن الاختلاف وافتقدنا آدابه والالتزام باخلاقياته، فكان ان سقطنا فريسة التآكل الداخل والتنازع الذي اورثنا هذه الحياة الفاشلة وادى الى ذهاب الريح، قال تعالى:
«ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم» «الانفال: ٢٦»
ولقد حذرنا الله تعالى من السقوط في علل اهل الاديان السابقة، وقص علينا تاريخهم للعبرة والحذر، فقال:
«ولاتكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا. كل حزب بما لديهم فرحون» «الروم:٣١ـ٣٢» . واعتبر الاختلاف الذي يسبب الافتراق والتمزق ابتعادا عن أي هدي للنبوة او انتساب لرسولها ﷺ حين قال تعالى: «ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ... .» «الانعام:١٥٩» . ذلك ان اهل الكتاب لم يؤتوا من قلة علم وضآلة معرفة، وانما كان هلاكهم لانهم وظفوا ما عندهم من علوم ومعارف للبغي بينهم، قال تعالى: «وما اختلف الذين اوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ...» «آل عمران:١٩» .
فهل ورثنا علل اهل الكتاب بدل ان نرث الكتاب؟ وهل ورثنا البغي بدل ان نرث العلم والمعرفة ونلتزم باخلاقهما؟ ان الاختلاف والبغي وتفريق الدين من علل اهل الكتاب التي كانت سببا في هلاكهم ونسخ اديانهم وبقاء قصصهم وسائل ايضاح للدرس والعبرة لمن ورثوا الكتاب والنبوة، ذلك انه لاسبيل للاستبدال والنسخ في عالم المسلمين، وهم اصحاب الرسالة الخاتمة، وانما هي الامراض التي لاتقضي على الجسم نهائيا، فاما ان تستمر فتعيش الامة حالة الوهن الذائب، واما ان تعالج فيكون التصويب، وتكون المعافاة، ويكون النهوض وايقاف التآكل الداخلي، وهذا من خصائص الرسالة الخاتمة. ان ما يعانيه عالم المسلمين اليوم لايخرج عن ان يكون اعراضا للمشكلة الثقافية وخللا في البنية الفكرية التي يعيشها العقل المسلم، وآثارا للازمة الاخلاقية التي يعاني منها السلوك المسلم، وما من سبيل الى خروج الا بمعالجة جذور الازمة الفكرية وتصويب الفهم واعادة صياغة السلوك الخلقي، كضمانة ضرورية، والا كنا كالذي يضرب في حديد بارد. ولاشك ان الاختلاف في وجهات النظر وتقدير الاشياء والحكم عليها امر فطري طبيعي، له علاقة بالفروق الفردية الى حد بعيد، اذ يستحيل بناء الحياة وقيام شبكة العلاقات الاجتماعية بين الناس اصحاب القدرات الواحدة والنمطية الواحدة، ذلك ان الاعمال الذهنية والعملية تتطلب مهارات متفاوتة، وكأن حكمة الله تعالى اقتضت ان يكون بين الناس بفروقهم الفردية سواء أكانت خلقية ام مكتسبة بين الاعمال في الحياة تواعد والتقاء، وكل ميسر لما خلق له، وعلى ذلك فالناس مختلفون، والمؤمنون درجات، فمنهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات الخ ... «ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين» «هود:١١٨» .
وهنا نقول: ان الاختلاف بوجهات النظر بدل ان يكون ظاهرة صحة تغني العقل المسلم بخصوبة في الرأي، والاطلاع على عدد من وجهات النظر، ورؤية الامور من ابعادها وزواياها كلها، واضافة عقول الى عقل، انقلب عند مسلم عصر التخلف الى وسيلة للتآكل الداخلي والانهاك، وفرصة للاقتتال، حتى كاد الامر ان نصل ببعض المختلفين الى حد التصفية الجسدية، والى الاستنصار والتقوي باعداء الدين على صاحب الرأي المخالف، ولهذا في التاريخ القريب والبعيد شواهد، فكثيرا ما يعجز الانسان عن النظرة الكلية السوية للامور، والرؤية الشاملة للابعاد المتعددة فيقبع وراء جزئية يضخمها ويكبرها حتى تستغرقه الى درجة لايمكن معها ان يرى شيئا آخر، او انسانا يرى رأيا آخر، وقد تصل به الى ان يرى بمقايسات محزنة اعداء الدين اقرب اليه من المخالفين له بالرأي من المسلمين الذين يلتقون معه على اصول العقيدة نفسها ... ولعل في الحادثة التاريخية الشهيرة ذر الاختلاف بقرنه، وفقد آدابه، وفرقت بعض طوائف الامة المسلمة دينها الجامع ما يلقي بعض الاضواء التي قد تكون ذات مغزى لحياتنا اليوم الى حد بعيد.. «يروى ان واصل بن عطاء اقبل في رفقة فاحسوا الخوارج فقال واصل لاهل الرفقة: ان هذا ليس من شانكم، فاعتزلوا ودعوني واياهم.، وكانوا قد اشرفوا على العطب. فقالوا: شانك. فخرج اليهم، فقالوا: ما انت واصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده. فقالوا: قد اجرناكم، قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه احكامهم، وجعل يقول: قد قبلت انا ومن معي. قالوا: فامضوا مصاحبين فانكم اخواننا. قال: ليس ذلك لكم، قال الله ﵎: «وان احد من المشركين استجارك فاجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه٠٠» فابلغونا مامننا، فنظر بعضهم الى بعض ثم قالوا ذاك لكم. فساروا باجمعهم حتى بلغوا المأمن «الكامل في اللغة والادب للمبرد:٢/١١٢» .
لقد وصلت حدة الاختلاف الى مرحلة اصبح المشرك معها يامن على نفسه عند بعض الفرق الاسلامية التي ترى انها على الحق المحض اكثر من المسلم المخالف لها بوجهة النظر والاجتهاد، حيث اصبح لاسبيل معها للخلاص من التصفية الجسدية الا باظهار صفة الشرك. انه الاختلاف الذي يتطور ويتطور وتتعمق اخاديده فيسيطر على الشخص ويمتلك عليه حواسه الى درجة ينسى معها المعاني الجامعة والصيد المشترك الذي يلتقي عليه المسلمون، ويعدم صاحبه الابصار الا للمواطن التي تختلف فيها وجهات النظر، وتغيب عنه ابجديات الخلق الاسلامي، فتضطرب الموازين، وينقلب عنده الظني الى قطعي، والمتشابه الى محكم، وخفي الدلالة الى واضح الدلالة، والعام الى خاص، وتستهوي النفوس العليلة مواطن الخلاف، فتسقط، في هاوية تكفير المسلمين، وتفضيل غيرهم من المشركين عليهم ... وقد تنقلب الآراء الاجتهادية والمدارس الفقهية التي محلها اهل النظر والاجتهاد، على ايدي المقلدين والاتباع الى ضرب من التحزب الفكري، والتعصب السياسي، والتخريب الاجتماعي تؤول على ضوئه آيات القرآن واحاديث الرسول ﷺ فتصبح كل آية او حديث لاتوافق هذا اللون من التحزب الفكري اما مؤولة او منسوخة، وقد يشتد التعصب ويشتد فتعود الينا مقولة الجاهلية: «كذاب ربيعة افضل من صادق مضر ...» . ولعل مرد معظم اختلافاتنا اليوم الى عوج في الفهم تورثه علل النفوس من الكبر والعجب بالرأي، والطواف حول الذات والافتتان بها، واعتقاد ان الصواب والزعامة وبناء الكيان انما يكون باتهام الآخرين بالحق وبالباطل، الامر الذي قد يتطور حتى يصل الى فجور في الخصومة والعياذ بالله تعالى. اننا قلما ننظر الى الدخل، لان الانشغال بعيوب الناس، والتشهير بها، والاسقاط عليها، لم يدع لنا فرصة التأمل في بنائنا الداخلي، والاثر يقول: «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس» .
لقد اختلف السلف الصالح رضوان الله عليهم، لكن اختلافهم في الرأي لم يكن سببا لافتراقهم، انهم اختلفوا لكنهم لم يتفرقوا، لان وحدة القلوب كانت اكبر من ان ينال منها شيء، انهم تخلصوا من العلل النفسية وان اصيب بعضهم بخطأ الجوارح، وكان الرجل الذي بشر الرسول ﷺ الصحابة بطلعته عليهم واخبرهم انه من اهل الجنة، هو الذي استكنهوا امره وعمله فتبين انه لاينام وفي قلبه غل على مسلم ... اما نحن اليوم فمصيبتنا في نفوسنا وقلوبنا، لذلك فان معظم مظاهر التوحد والدعوة اليه والانتصار له انما هي عبارة عن مخادعة للنفس، ومظاهر خارجية قد لا نختلف فيها كثيرا عن غيرنا والله تعالى يقول: «وذروا ظاهر الاثم وباطنه» «الانعام:١٢٠» . فالعالم الاسلامي بعد ان كان دولة واحدة تدين بالمشروعية العليا لكتاب الله تعلى وسنة رسوله اصبح اليوم سبعا وثمانين دويلة او يزيد، والاختلافات بينهم لايعلم مداها لا الله، وكلها ترفع شعارات الوحدة، بل قد توجد ضمن الدولة الواحدة كيانات عدة. وليس واقع بعض العاملين للاسلام اليوم الذين تناط بهم مهمة الانقاذ احسن حالا من مؤسساتهم الرسمية ... ان ازمتنا ازمة فكر، ومشكلتنا في عدم صدق الانتماء، والامة المسلمة عندما سلم لها عالم افكارها، وكانت المشروعية العليا الاساسية في حياتها للكتاب والسنة استطاعت ان تحمل رسالة وتقيم حضارة على الرغم من شظف العيش وقسوة الظروف المادية، فكان مع العسر يسر ... ذلك ان الحيدة عن الكتاب والسنة موقع في التنازع والفشل، قال تعالى. «واطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ...» «الانفال:٤٦» . لقد اوقف الاسلام التشرذم والتآكل الداخلي ووجه العرب وجهة الاله الواحد الحق والغى الآلهة المزيفة حيث كان لكل قبيلة الهها الذي تتجه اليه. اما المسلمون اليوم في مواقعهم الكثيرة فانهم لا يشكون من قلة المادة وتوفر الاشياء، ومع ذلك انقلبوا الى امة مستهلكة على
مستوى الافكار والاشياء معا لانهم افتقدوا المعاني الجامعة والقواسم المشتركة، وغابت عنهم المشروعية الكبرى في حياتهم، واصاب الخلل بنيتهم الفكرية. من هنا نقول: لابد من اعادة الصياغة، واعادة الترتيب المفقود لفكر المسلم، ولا سبيل الى ذلك الا بالرجوع الى كتب الاصول، حيث وضع علماؤنا الضوابط والقواعد للمقايسة والاستنتاج لضبط الرأي وضمان مساره، واقتران العلم عندهم باخلاقه ... وتنمية الدراسات التي تؤكد وحدة الامة وقواسمها المشتركة، والمنهج التربوي الذي يسلحها باخلاق المعرفة، وابراز النقاط الجامعة واعتبار فترات الرفض والخروج وكتب الخلافات حالات مرضية لايعتد بها. من هنا ياتي هذا الكتاب في وقت احوج ما يكون المسلمين اليه، ومساهمة طيبة في اغناء هذا الموضوع الهام والخطير حيث يبصر المثقف المسلم بشكل عام بشيء من مناهج العلماء في الاستنباط، وبالاصول التي بنى عليها هؤلاء العلماء اجتهاداتهم ومبتنى اختلافاتهم، ليعلم ان هذه الاختلافات انما تحكمها ضوابط وقواعد واصول لايحسنها كل من اراد التطاول على الاجتهاد دون امتلاك اداته، وتنتظمها اخلاق وآداب، يحفظها من الجنوح والخروج وازع ديني ...
لقد قدم نماذج على ارفع المستويات من سيرة السلف الصالح للاقتداء والتأسي قبل ان تنقلب المدارس الاجتهادية على ايدي المقلدة مذاهب سياسية وتحزبات فكرية، وقد اعان المؤلف على ذلك تخصصه في العلوم الاسلامية واصول الفقه، ولا شك ان الكتاب في بعض جوانبه قد غلبت عليه الصفة العلمية الاكاديمية، ولا شك عندنا انها ضرورة لازمة، خاصة بالنسبة لاولئك المثقفين من المسلمين بشكل عام الذين لم تتح لهم ظروفهم الاطلاع على شيء من الاصول الشرعية، لذلك يمكن القول: ان هذا الكتاب يمكن ان يكون كتابا معلما الى حد بعيد، وان كنا نعتقد ان الاطلاع على هذه المناهج والآداب لا يكفي لحل مشكلة المسلمين ومعالجة ازمتهم الفكرية، بل لابد مع ذلك من التربية العملية والتدرب على آداب الخلاف والاخلاق التي يجب ان تحكمه ... ولا يفوتنا هنا ان نشيد بالروح الاسلامية في الاخوة والتعاون التي لمسناها من المعهد العالمي للفكر الاسلامي بواشنطن حيث آثرنا بهذا الكتاب ليكون في سلسلة «كتاب الامة» ايمانا منه بوحدة الغاية والقصد، والله نسأل ان يلهم الجميع الاخلاص في العمل والسداد في الرأي، انه الهادي الى سواء السبيل.
المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه من دعا بدعوته واهتدى أتهديه الى يوم الدين، وبعد: فان امراض المسلمين في عصرنا هذا قد تعددت وتشعبت وفشت حتى شملت جوانب متعددة من شؤونهم الدينية والدنيوية، ومن العجيب ان الامة المسلمة لا تزال على قيد الحياة، لم تصب منها تلك الادواء بحمد الله مقتلا على كثرتها وخطورتها، وكان بعها كفيلا بابادة امم وشعوب لم تغن عنها كثرتها ولا وفرة مواردها، ولعل مرد نجاة هذه الامة الى هذا اليوم رغم ضعفها هو وجود كتاب ربها وسنة نبيها عليه افضل الصلاة والتسليم بين ظهرانيها ثم دعوة نبيها ﷺ واستغفار الصالحين من ابنائها «وما كان الله ليعذبهم وانت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون» «الانفال:٣٣» . وان من اخطر ما اصيبت به هذه الامة في الآونة الاخيرة مرض «الاختلاف والمخالفة» ... الاختلاف في كل شيء، وعلى كل شيء، حتى شمل العقائد والافكار والتصورات والآراء الى جانب الاذواق والتصرفات والسلوك والاخلاق، وتعدى الاختلاف كل ذلك حتى بلغ اساليب الفقه، وفروض العبادات وكأن كل ما لدى هذه الامة من اوامر ونواه يحثها على الاختلاف او يدفعها اليه والامر عكس ذلك تماما، فان كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ما حرصا على شيء بعد التوحيد حرصهما على تأكيد وحدة الامة، ونبذ الاختلاف بين ابنائها، ومعالجة كل ما من شانه ان يعكر صفو العلاقة بين المسلمين، او يخدش اخوة المؤمنين، ولعل مبادئ الاسلام ما نددت بشيء بعد الاشراك بالله تنديدها باختلاف الامة، وما حضت على امر بعد الايمان بالله حضها على الوحدة والائتلاف بين المسلمين. واوامر الله ورسوله واضحة في دعوتها لايجاد الامة التي تكون كالجسد الواحد اذا اشتكى بعضه اصابه الوهن كله.
ولكن رسالة الاسلام مع ذلك رسالة واقعية تتعامل مع الانسان على ما هو عليه، وخالق الانسان ﵎ يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، فقد وهب لعباده عقولا ومقدرات متباينة من شانها ان تؤدي الى اختلاف في نظرتهم وافكارهم ومواقفهم من كثير من الاشياء، ولذلك فان الاسلام يتسع الى تلك الاختلافات كلها التي لا تهدد وحدة الامة، فيكفي ان تتفق الآراء، وتلتقي التصورات، وتتوحد المواقف ازاء القضايا الكبرى والقواعد الاساسية، اما ما عداها من امور فرعية، وقضايا ثانوية مما يساعد اختلاف الرأي فيها على الجنوح يحو الافضل والامثل فلا ضير فيه على ان يكون لهذا الاختلاف ضوابطه وحدوده، وقواعده وآدابه، والا يؤثر على وحدة فكر الامة ومواقفها من القضايا الاساسية الكبرى. فما حقيقة الاختلاف؟ وما الحدود التي لايجوز تجاوزها فيه؟ وما اسبابه؟ وما القدر المسموح به منه؟ وما ضوابطه وآدابه؟ وما السبيل للتخلص من سلبياته؟ هذا ما سنحاول بحثه في هذه المعالجة، ان شاء الله تعالى. ونظرا لتعدد جوانب هذا الموضوع فقد تنوعت مصادره فله جانب منطقي جدلي تكفلت ببحثه الكتب المنطقية الخاصة بآداب البحث والمناظرة (١) . _________ (١) وذلك مثل متن آداب البحث: لعضد الدين الإيجي المتوفى سنة (٧٥٦هـ) وهو متن صغير، شرحه كثيرون. وهناك منظومة لزين الدين المرصفي المتوفى سنة (١٣٠٠ هـ) نظم فيها جملة آداب البحث والمناظرة كما ان لـ: طاش كبرى زاده المتوفى سنة (٩٦٨هـ) وصاحب الكتاب المعروف في تصنيف العلوم المسمى بـ «مفتاح السعادة» منظومة في هامة في هذا الفن، بين فيها حقيقة المناظرة وآدابها وحصرها بتسعة، كما بين ما يطلب من السائل والمعلل من الآداب أثناء المناظرة، وهناك كتاب الفه السيد محمد الأمين الشنقيطي الجكني في هذا الموضوع لطلبة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
وله جانب اصولي تناولته الكتب الاصولية التي تعرضت لمباحث اسباب الاختلاف (٢) . كما تعرض الاصوليون له في بعض مباحث القياس (٣)، وله جانب فقهي يرد في ثنايا الكتب التي عنيت بالبحث في مجال «الفقه المقارن» او ما يسمى بكتب «الخلافيات» . _________ (٢) من هذه الكتب: (أ) كتاب «التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم ومذاهبهم واعتقاداتهم، لأبي عبد الله بن محمد السيد البطليوسي المتوفى سنة (٥٢١ هـ) وقد طبع في القاهرة مرتين، الأخيرة منها صدرت في دار الاعتصام، بتحقيق وتعليق الأستاذين الدكتور أحمد حسن كحيل والدكتور حمزة عبد الله النشرتي. (ب) كتاب «رفع الملازم عن الأئمة الأعلام» لشيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة (٧٢٨ هـ) وقد طبع طبعات عدة في مصر والشام والهند والمملكة العربية السعودية، وهو مشهور متداول. (ج) كتاب «الإنصاف في بيان الاختلاف في الأحكام الفقهية» لشاه ولي الله أحمد بن عبد الرحيم الفاروقي الدهلوي المتوفى سنة (١١٧٦ هـ) وقد طبع مفردا عدة مرات، كما طبع ضمن كتابه القيم «حجة الله البالغة» كما أن هناك كثيرا من المحدثين، قد كتبوا في هذا الجانب الهام من الجوانب الأصولية الفقهية منها: * الشيخ علي الخفيف ﵀ الذي كتب كتابه «أسباب اختلاف الفقهاء» كما كتب الأستاذ مصطفى إبراهيم الزلمي رسالته للدكتوراه في «أسباب اختلاف الفقهاء في الأحكام الشرعية» . * وكذلك الدكتور: مصطفى سعيد الخن رسالته في «أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء» . * والدكتور عبد الله التركي رسالته للماجستير في «اسباب اختلاف الفقهاء» كما تناول الدكتور مصطفى البغا في رسالته للدكتوراه «أثر الأدلة المختلف فيها» وكتب محمد أبو الفتح البيانوني كتابه: «دراسات في الاختلافات الفقهية» كما كتب الشيخ عبد الجليل عيسى كتابه: «ما لا يجوز الاختلاف فيه بين المسلمين» . (٣) ويمكن مراجعة ذلك في المباحث المتعلقة بقواعد العلة والأسئلة الواردة على القياس.
واما الآداب فيمكن الحصول على امثلتها ونماذجها من كتب الطبقات والتراجم والمناظرات والتاريخ وغيرها. وقد حاولنا في هذا البحث ان نستفيد من جميع المصادر، كما اننا رتبناه على مقدمة وستة فصول وخاتمة، ثم اردفنا ذلك بمسرد للهوامش والحواشي والتعليقات لرغبتنا ان يكون كل ما اوردناه فيه موثقا، منسوبا الى مصادره، واعقبنا ذلك كله بفهرس للموضوعات، ونسأل الله التوفيق والسداد وان يجمع كلمة المسلمين، ويوجد بين قلوبهم على حبه، وحب رسوله ﷺ ويؤلف بينهم، ويزيل اسباب النفرة والخلاف.. انه سميع مجيب. الدكتور طه جابر فياض العلواني
«ولاتكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا. كل حزب بما لديهم فرحون» «الروم:٣١ـ٣٢» . واعتبر الاختلاف الذي يسبب الافتراق والتمزق ابتعادا عن أي هدي للنبوة او انتساب لرسولها ﷺ حين قال تعالى: «ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ... .» «الانعام:١٥٩» . ذلك ان اهل الكتاب لم يؤتوا من قلة علم وضآلة معرفة، وانما كان هلاكهم لانهم وظفوا ما عندهم من علوم ومعارف للبغي بينهم، قال تعالى: «وما اختلف الذين اوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ...» «آل عمران:١٩» .
فهل ورثنا علل اهل الكتاب بدل ان نرث الكتاب؟ وهل ورثنا البغي بدل ان نرث العلم والمعرفة ونلتزم باخلاقهما؟ ان الاختلاف والبغي وتفريق الدين من علل اهل الكتاب التي كانت سببا في هلاكهم ونسخ اديانهم وبقاء قصصهم وسائل ايضاح للدرس والعبرة لمن ورثوا الكتاب والنبوة، ذلك انه لاسبيل للاستبدال والنسخ في عالم المسلمين، وهم اصحاب الرسالة الخاتمة، وانما هي الامراض التي لاتقضي على الجسم نهائيا، فاما ان تستمر فتعيش الامة حالة الوهن الذائب، واما ان تعالج فيكون التصويب، وتكون المعافاة، ويكون النهوض وايقاف التآكل الداخلي، وهذا من خصائص الرسالة الخاتمة. ان ما يعانيه عالم المسلمين اليوم لايخرج عن ان يكون اعراضا للمشكلة الثقافية وخللا في البنية الفكرية التي يعيشها العقل المسلم، وآثارا للازمة الاخلاقية التي يعاني منها السلوك المسلم، وما من سبيل الى خروج الا بمعالجة جذور الازمة الفكرية وتصويب الفهم واعادة صياغة السلوك الخلقي، كضمانة ضرورية، والا كنا كالذي يضرب في حديد بارد. ولاشك ان الاختلاف في وجهات النظر وتقدير الاشياء والحكم عليها امر فطري طبيعي، له علاقة بالفروق الفردية الى حد بعيد، اذ يستحيل بناء الحياة وقيام شبكة العلاقات الاجتماعية بين الناس اصحاب القدرات الواحدة والنمطية الواحدة، ذلك ان الاعمال الذهنية والعملية تتطلب مهارات متفاوتة، وكأن حكمة الله تعالى اقتضت ان يكون بين الناس بفروقهم الفردية سواء أكانت خلقية ام مكتسبة بين الاعمال في الحياة تواعد والتقاء، وكل ميسر لما خلق له، وعلى ذلك فالناس مختلفون، والمؤمنون درجات، فمنهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات الخ ... «ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين» «هود:١١٨» .
وهنا نقول: ان الاختلاف بوجهات النظر بدل ان يكون ظاهرة صحة تغني العقل المسلم بخصوبة في الرأي، والاطلاع على عدد من وجهات النظر، ورؤية الامور من ابعادها وزواياها كلها، واضافة عقول الى عقل، انقلب عند مسلم عصر التخلف الى وسيلة للتآكل الداخلي والانهاك، وفرصة للاقتتال، حتى كاد الامر ان نصل ببعض المختلفين الى حد التصفية الجسدية، والى الاستنصار والتقوي باعداء الدين على صاحب الرأي المخالف، ولهذا في التاريخ القريب والبعيد شواهد، فكثيرا ما يعجز الانسان عن النظرة الكلية السوية للامور، والرؤية الشاملة للابعاد المتعددة فيقبع وراء جزئية يضخمها ويكبرها حتى تستغرقه الى درجة لايمكن معها ان يرى شيئا آخر، او انسانا يرى رأيا آخر، وقد تصل به الى ان يرى بمقايسات محزنة اعداء الدين اقرب اليه من المخالفين له بالرأي من المسلمين الذين يلتقون معه على اصول العقيدة نفسها ... ولعل في الحادثة التاريخية الشهيرة ذر الاختلاف بقرنه، وفقد آدابه، وفرقت بعض طوائف الامة المسلمة دينها الجامع ما يلقي بعض الاضواء التي قد تكون ذات مغزى لحياتنا اليوم الى حد بعيد.. «يروى ان واصل بن عطاء اقبل في رفقة فاحسوا الخوارج فقال واصل لاهل الرفقة: ان هذا ليس من شانكم، فاعتزلوا ودعوني واياهم.، وكانوا قد اشرفوا على العطب. فقالوا: شانك. فخرج اليهم، فقالوا: ما انت واصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده. فقالوا: قد اجرناكم، قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه احكامهم، وجعل يقول: قد قبلت انا ومن معي. قالوا: فامضوا مصاحبين فانكم اخواننا. قال: ليس ذلك لكم، قال الله ﵎: «وان احد من المشركين استجارك فاجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه٠٠» فابلغونا مامننا، فنظر بعضهم الى بعض ثم قالوا ذاك لكم. فساروا باجمعهم حتى بلغوا المأمن «الكامل في اللغة والادب للمبرد:٢/١١٢» .
لقد وصلت حدة الاختلاف الى مرحلة اصبح المشرك معها يامن على نفسه عند بعض الفرق الاسلامية التي ترى انها على الحق المحض اكثر من المسلم المخالف لها بوجهة النظر والاجتهاد، حيث اصبح لاسبيل معها للخلاص من التصفية الجسدية الا باظهار صفة الشرك. انه الاختلاف الذي يتطور ويتطور وتتعمق اخاديده فيسيطر على الشخص ويمتلك عليه حواسه الى درجة ينسى معها المعاني الجامعة والصيد المشترك الذي يلتقي عليه المسلمون، ويعدم صاحبه الابصار الا للمواطن التي تختلف فيها وجهات النظر، وتغيب عنه ابجديات الخلق الاسلامي، فتضطرب الموازين، وينقلب عنده الظني الى قطعي، والمتشابه الى محكم، وخفي الدلالة الى واضح الدلالة، والعام الى خاص، وتستهوي النفوس العليلة مواطن الخلاف، فتسقط، في هاوية تكفير المسلمين، وتفضيل غيرهم من المشركين عليهم ... وقد تنقلب الآراء الاجتهادية والمدارس الفقهية التي محلها اهل النظر والاجتهاد، على ايدي المقلدين والاتباع الى ضرب من التحزب الفكري، والتعصب السياسي، والتخريب الاجتماعي تؤول على ضوئه آيات القرآن واحاديث الرسول ﷺ فتصبح كل آية او حديث لاتوافق هذا اللون من التحزب الفكري اما مؤولة او منسوخة، وقد يشتد التعصب ويشتد فتعود الينا مقولة الجاهلية: «كذاب ربيعة افضل من صادق مضر ...» . ولعل مرد معظم اختلافاتنا اليوم الى عوج في الفهم تورثه علل النفوس من الكبر والعجب بالرأي، والطواف حول الذات والافتتان بها، واعتقاد ان الصواب والزعامة وبناء الكيان انما يكون باتهام الآخرين بالحق وبالباطل، الامر الذي قد يتطور حتى يصل الى فجور في الخصومة والعياذ بالله تعالى. اننا قلما ننظر الى الدخل، لان الانشغال بعيوب الناس، والتشهير بها، والاسقاط عليها، لم يدع لنا فرصة التأمل في بنائنا الداخلي، والاثر يقول: «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس» .
لقد اختلف السلف الصالح رضوان الله عليهم، لكن اختلافهم في الرأي لم يكن سببا لافتراقهم، انهم اختلفوا لكنهم لم يتفرقوا، لان وحدة القلوب كانت اكبر من ان ينال منها شيء، انهم تخلصوا من العلل النفسية وان اصيب بعضهم بخطأ الجوارح، وكان الرجل الذي بشر الرسول ﷺ الصحابة بطلعته عليهم واخبرهم انه من اهل الجنة، هو الذي استكنهوا امره وعمله فتبين انه لاينام وفي قلبه غل على مسلم ... اما نحن اليوم فمصيبتنا في نفوسنا وقلوبنا، لذلك فان معظم مظاهر التوحد والدعوة اليه والانتصار له انما هي عبارة عن مخادعة للنفس، ومظاهر خارجية قد لا نختلف فيها كثيرا عن غيرنا والله تعالى يقول: «وذروا ظاهر الاثم وباطنه» «الانعام:١٢٠» . فالعالم الاسلامي بعد ان كان دولة واحدة تدين بالمشروعية العليا لكتاب الله تعلى وسنة رسوله اصبح اليوم سبعا وثمانين دويلة او يزيد، والاختلافات بينهم لايعلم مداها لا الله، وكلها ترفع شعارات الوحدة، بل قد توجد ضمن الدولة الواحدة كيانات عدة. وليس واقع بعض العاملين للاسلام اليوم الذين تناط بهم مهمة الانقاذ احسن حالا من مؤسساتهم الرسمية ... ان ازمتنا ازمة فكر، ومشكلتنا في عدم صدق الانتماء، والامة المسلمة عندما سلم لها عالم افكارها، وكانت المشروعية العليا الاساسية في حياتها للكتاب والسنة استطاعت ان تحمل رسالة وتقيم حضارة على الرغم من شظف العيش وقسوة الظروف المادية، فكان مع العسر يسر ... ذلك ان الحيدة عن الكتاب والسنة موقع في التنازع والفشل، قال تعالى. «واطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ...» «الانفال:٤٦» . لقد اوقف الاسلام التشرذم والتآكل الداخلي ووجه العرب وجهة الاله الواحد الحق والغى الآلهة المزيفة حيث كان لكل قبيلة الهها الذي تتجه اليه. اما المسلمون اليوم في مواقعهم الكثيرة فانهم لا يشكون من قلة المادة وتوفر الاشياء، ومع ذلك انقلبوا الى امة مستهلكة على
مستوى الافكار والاشياء معا لانهم افتقدوا المعاني الجامعة والقواسم المشتركة، وغابت عنهم المشروعية الكبرى في حياتهم، واصاب الخلل بنيتهم الفكرية. من هنا نقول: لابد من اعادة الصياغة، واعادة الترتيب المفقود لفكر المسلم، ولا سبيل الى ذلك الا بالرجوع الى كتب الاصول، حيث وضع علماؤنا الضوابط والقواعد للمقايسة والاستنتاج لضبط الرأي وضمان مساره، واقتران العلم عندهم باخلاقه ... وتنمية الدراسات التي تؤكد وحدة الامة وقواسمها المشتركة، والمنهج التربوي الذي يسلحها باخلاق المعرفة، وابراز النقاط الجامعة واعتبار فترات الرفض والخروج وكتب الخلافات حالات مرضية لايعتد بها. من هنا ياتي هذا الكتاب في وقت احوج ما يكون المسلمين اليه، ومساهمة طيبة في اغناء هذا الموضوع الهام والخطير حيث يبصر المثقف المسلم بشكل عام بشيء من مناهج العلماء في الاستنباط، وبالاصول التي بنى عليها هؤلاء العلماء اجتهاداتهم ومبتنى اختلافاتهم، ليعلم ان هذه الاختلافات انما تحكمها ضوابط وقواعد واصول لايحسنها كل من اراد التطاول على الاجتهاد دون امتلاك اداته، وتنتظمها اخلاق وآداب، يحفظها من الجنوح والخروج وازع ديني ...
لقد قدم نماذج على ارفع المستويات من سيرة السلف الصالح للاقتداء والتأسي قبل ان تنقلب المدارس الاجتهادية على ايدي المقلدة مذاهب سياسية وتحزبات فكرية، وقد اعان المؤلف على ذلك تخصصه في العلوم الاسلامية واصول الفقه، ولا شك ان الكتاب في بعض جوانبه قد غلبت عليه الصفة العلمية الاكاديمية، ولا شك عندنا انها ضرورة لازمة، خاصة بالنسبة لاولئك المثقفين من المسلمين بشكل عام الذين لم تتح لهم ظروفهم الاطلاع على شيء من الاصول الشرعية، لذلك يمكن القول: ان هذا الكتاب يمكن ان يكون كتابا معلما الى حد بعيد، وان كنا نعتقد ان الاطلاع على هذه المناهج والآداب لا يكفي لحل مشكلة المسلمين ومعالجة ازمتهم الفكرية، بل لابد مع ذلك من التربية العملية والتدرب على آداب الخلاف والاخلاق التي يجب ان تحكمه ... ولا يفوتنا هنا ان نشيد بالروح الاسلامية في الاخوة والتعاون التي لمسناها من المعهد العالمي للفكر الاسلامي بواشنطن حيث آثرنا بهذا الكتاب ليكون في سلسلة «كتاب الامة» ايمانا منه بوحدة الغاية والقصد، والله نسأل ان يلهم الجميع الاخلاص في العمل والسداد في الرأي، انه الهادي الى سواء السبيل.
المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه من دعا بدعوته واهتدى أتهديه الى يوم الدين، وبعد: فان امراض المسلمين في عصرنا هذا قد تعددت وتشعبت وفشت حتى شملت جوانب متعددة من شؤونهم الدينية والدنيوية، ومن العجيب ان الامة المسلمة لا تزال على قيد الحياة، لم تصب منها تلك الادواء بحمد الله مقتلا على كثرتها وخطورتها، وكان بعها كفيلا بابادة امم وشعوب لم تغن عنها كثرتها ولا وفرة مواردها، ولعل مرد نجاة هذه الامة الى هذا اليوم رغم ضعفها هو وجود كتاب ربها وسنة نبيها عليه افضل الصلاة والتسليم بين ظهرانيها ثم دعوة نبيها ﷺ واستغفار الصالحين من ابنائها «وما كان الله ليعذبهم وانت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون» «الانفال:٣٣» . وان من اخطر ما اصيبت به هذه الامة في الآونة الاخيرة مرض «الاختلاف والمخالفة» ... الاختلاف في كل شيء، وعلى كل شيء، حتى شمل العقائد والافكار والتصورات والآراء الى جانب الاذواق والتصرفات والسلوك والاخلاق، وتعدى الاختلاف كل ذلك حتى بلغ اساليب الفقه، وفروض العبادات وكأن كل ما لدى هذه الامة من اوامر ونواه يحثها على الاختلاف او يدفعها اليه والامر عكس ذلك تماما، فان كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ما حرصا على شيء بعد التوحيد حرصهما على تأكيد وحدة الامة، ونبذ الاختلاف بين ابنائها، ومعالجة كل ما من شانه ان يعكر صفو العلاقة بين المسلمين، او يخدش اخوة المؤمنين، ولعل مبادئ الاسلام ما نددت بشيء بعد الاشراك بالله تنديدها باختلاف الامة، وما حضت على امر بعد الايمان بالله حضها على الوحدة والائتلاف بين المسلمين. واوامر الله ورسوله واضحة في دعوتها لايجاد الامة التي تكون كالجسد الواحد اذا اشتكى بعضه اصابه الوهن كله.
ولكن رسالة الاسلام مع ذلك رسالة واقعية تتعامل مع الانسان على ما هو عليه، وخالق الانسان ﵎ يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، فقد وهب لعباده عقولا ومقدرات متباينة من شانها ان تؤدي الى اختلاف في نظرتهم وافكارهم ومواقفهم من كثير من الاشياء، ولذلك فان الاسلام يتسع الى تلك الاختلافات كلها التي لا تهدد وحدة الامة، فيكفي ان تتفق الآراء، وتلتقي التصورات، وتتوحد المواقف ازاء القضايا الكبرى والقواعد الاساسية، اما ما عداها من امور فرعية، وقضايا ثانوية مما يساعد اختلاف الرأي فيها على الجنوح يحو الافضل والامثل فلا ضير فيه على ان يكون لهذا الاختلاف ضوابطه وحدوده، وقواعده وآدابه، والا يؤثر على وحدة فكر الامة ومواقفها من القضايا الاساسية الكبرى. فما حقيقة الاختلاف؟ وما الحدود التي لايجوز تجاوزها فيه؟ وما اسبابه؟ وما القدر المسموح به منه؟ وما ضوابطه وآدابه؟ وما السبيل للتخلص من سلبياته؟ هذا ما سنحاول بحثه في هذه المعالجة، ان شاء الله تعالى. ونظرا لتعدد جوانب هذا الموضوع فقد تنوعت مصادره فله جانب منطقي جدلي تكفلت ببحثه الكتب المنطقية الخاصة بآداب البحث والمناظرة (١) . _________ (١) وذلك مثل متن آداب البحث: لعضد الدين الإيجي المتوفى سنة (٧٥٦هـ) وهو متن صغير، شرحه كثيرون. وهناك منظومة لزين الدين المرصفي المتوفى سنة (١٣٠٠ هـ) نظم فيها جملة آداب البحث والمناظرة كما ان لـ: طاش كبرى زاده المتوفى سنة (٩٦٨هـ) وصاحب الكتاب المعروف في تصنيف العلوم المسمى بـ «مفتاح السعادة» منظومة في هامة في هذا الفن، بين فيها حقيقة المناظرة وآدابها وحصرها بتسعة، كما بين ما يطلب من السائل والمعلل من الآداب أثناء المناظرة، وهناك كتاب الفه السيد محمد الأمين الشنقيطي الجكني في هذا الموضوع لطلبة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
وله جانب اصولي تناولته الكتب الاصولية التي تعرضت لمباحث اسباب الاختلاف (٢) . كما تعرض الاصوليون له في بعض مباحث القياس (٣)، وله جانب فقهي يرد في ثنايا الكتب التي عنيت بالبحث في مجال «الفقه المقارن» او ما يسمى بكتب «الخلافيات» . _________ (٢) من هذه الكتب: (أ) كتاب «التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم ومذاهبهم واعتقاداتهم، لأبي عبد الله بن محمد السيد البطليوسي المتوفى سنة (٥٢١ هـ) وقد طبع في القاهرة مرتين، الأخيرة منها صدرت في دار الاعتصام، بتحقيق وتعليق الأستاذين الدكتور أحمد حسن كحيل والدكتور حمزة عبد الله النشرتي. (ب) كتاب «رفع الملازم عن الأئمة الأعلام» لشيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة (٧٢٨ هـ) وقد طبع طبعات عدة في مصر والشام والهند والمملكة العربية السعودية، وهو مشهور متداول. (ج) كتاب «الإنصاف في بيان الاختلاف في الأحكام الفقهية» لشاه ولي الله أحمد بن عبد الرحيم الفاروقي الدهلوي المتوفى سنة (١١٧٦ هـ) وقد طبع مفردا عدة مرات، كما طبع ضمن كتابه القيم «حجة الله البالغة» كما أن هناك كثيرا من المحدثين، قد كتبوا في هذا الجانب الهام من الجوانب الأصولية الفقهية منها: * الشيخ علي الخفيف ﵀ الذي كتب كتابه «أسباب اختلاف الفقهاء» كما كتب الأستاذ مصطفى إبراهيم الزلمي رسالته للدكتوراه في «أسباب اختلاف الفقهاء في الأحكام الشرعية» . * وكذلك الدكتور: مصطفى سعيد الخن رسالته في «أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء» . * والدكتور عبد الله التركي رسالته للماجستير في «اسباب اختلاف الفقهاء» كما تناول الدكتور مصطفى البغا في رسالته للدكتوراه «أثر الأدلة المختلف فيها» وكتب محمد أبو الفتح البيانوني كتابه: «دراسات في الاختلافات الفقهية» كما كتب الشيخ عبد الجليل عيسى كتابه: «ما لا يجوز الاختلاف فيه بين المسلمين» . (٣) ويمكن مراجعة ذلك في المباحث المتعلقة بقواعد العلة والأسئلة الواردة على القياس.
واما الآداب فيمكن الحصول على امثلتها ونماذجها من كتب الطبقات والتراجم والمناظرات والتاريخ وغيرها. وقد حاولنا في هذا البحث ان نستفيد من جميع المصادر، كما اننا رتبناه على مقدمة وستة فصول وخاتمة، ثم اردفنا ذلك بمسرد للهوامش والحواشي والتعليقات لرغبتنا ان يكون كل ما اوردناه فيه موثقا، منسوبا الى مصادره، واعقبنا ذلك كله بفهرس للموضوعات، ونسأل الله التوفيق والسداد وان يجمع كلمة المسلمين، ويوجد بين قلوبهم على حبه، وحب رسوله ﷺ ويؤلف بينهم، ويزيل اسباب النفرة والخلاف.. انه سميع مجيب. الدكتور طه جابر فياض العلواني
अज्ञात पृष्ठ