अबू नुवास
أبو نواس: الحسن بن هانئ
शैलियों
في الموضع الخلو لم ينطق من الحصر
ولا يكون كذلك هو مثال «الشخصية النموذجية» في سرعة الجواب، وإفحام النظراء. ونحسب أنه لم يكن صالحا بطبيعة تكوينه للإفحام والإحراج، فإنه كان - كما تواتر وصفه - ألثغ نحيف الصوت مضطرب الأعصاب، وليس أيسر من إحراج مثله بمحاكاة لثغته ونحافة صوته واضطرابه، وإنما آلت «شخصيته النموذجية» إلى هذه الصورة بحكم الشهرة، وما يفهمه كل جيل من مناسباتها وأحوالها، فإذا تحولت به الشهرة من شخصيته الأولى إلى شخصية الشاعر الملازم للبلاط المنادم للأمراء في ساعات السكر والغضب والنزوات والبدوات، فلا جرم تكون النكتة الحاضرة والحيلة السريعة من أدواته وآلاته، ويصبح تصور الناس لصفات الشاعر هنا تابعا لما يتصورونه من صفات الأمير المطاع؛ حتى ليكون من صفاته في بعض الأزمنة أنه يغضب، ويأمر بالقتل بغير سبب، وأنه يدين ويعفو في لحظة واحدة، وأنه لا يقبل الكلام إلا أن يكون من باب الملحة أو الكناية أو الجناس.
هذه الشخصية النموذجية «حديثة» ولا ريب طرأت بعد عصر أبي نواس بعد أجيال، وسنعرض لحقيقة هذه الشخصية في الفصول التالية، ونعود به إلى الأصل الذي نجم منه النموذج الأول، ولكننا نزيد على ما تقدم في هذا الفصل أن الشهرة النادرة التي ظفر بها أبو نواس لم يكن مداراها كلها على شخصيته النموذجية، بل يرجع الكثير منها إلى اقترانه بطراز آخر من الشخصية النموذجية، لعله أشهر أمثاله في التاريخ العربي أو في تاريخ العالم، وتلك هي شخصية هارون الرشيد الذي قيل عن أبي نواس : كان شاعره ونديمه، وأنه كان يلازمه في حله وترحاله، ويطلع على أسرار بيته وخفايا حريمه. •••
ولأمر ما شاعت عن هارون الرشيد هذه الشهرة، وتعلم من لا يعلم شيئا عنه أن يتشبه به كلما قضى ليلة لهو ومرح، وخيل إليه أنه أحاط نفسه بكل ما يشتهيه المشتهي من الترف والمتاع، ولم يكن هارون الرشيد بهذه الصفة على التحقيق، ولم يكن شاهروه بهذه السمعة جميعا يحسنون النية، ويجهلون معنى ما يفترون، فربما كان منهم من يحنق على الخلافة العباسية، ويختلق المثالب لها ولأقطابها على سبيل الدعوة لخصومها، وربما كانت نوادر ألف ليلة كلها أو جلها من الأخبار الموضوعة للتشهير بدولة والترويج لدولة غيرها، وقد كان أبو نواس ذريعة للتشهير بالخلفاء في زمانه قبل تمادي الزمن، واختفاء الحقيقة أو نسيانها، فكان أعداء الخليفة الأمين بن هارون يعيبونه، فلا يجدون في عيبه ما هو أقدح وأقبح من مصاحبة أبي نواس وتقريبه إلى مجلسه، فلا عجب أن تعمل الدعوة بعد قرن أو قرنين عملا يجول فيه الملفق والمفتري كل مجال، ولا يرى من يعترضه بين العامة إذا جمع في تهمة واحدة بين الخليفة المثالي من بني العباس، والشاعر المثالي من أبناء عصره، وهو أبو نواس.
والمحافظة على اسم ذي كلمتين أسهل من المحافظة على معالم شخصية إنسانية تحتاج المحافظة عليها إلى عالم بخصائص الطباع والنفوس، وعلم بوقائع التاريخ ومطامع السياسة، ولكن الطوائف التي شاع بينها اسم هارون الرشيد كانت كالطوائف التي شاع بينها اسم أبي نواس، أو كانت هي إياها كما يقول النحاة، فتناولت بالتحريف اسمه كما تناولت معالم شخصيته، وسمته هارون الرشيدي كما سمت صاحبنا أبا نواس بتشديد الواو، ولعل تلقيب هارون الرشيدي قد نشأ في مصر مع أقوال الدعاة الفاطميين فيها، فحسبه المتحدثون والسامعون منسوبا إلى رشيد، أو سبقت النسبة إلى ألسنتهم؛ لأنهم يسمعونها مقترنة بكثير من الأسماء، ولا نخالها من تصحيف المطبعة حين طبع كتاب ألف ليلة وليلة بمصر غير مرة، فإن تصحيف المطبعة إنما جاء على ما هو ظاهر بعد تصحيف اللسان.
وجملة القول: إن «شخصية نموذجية» واحدة تفعل الأعاجيب في تزويد صاحبها بالأخبار والأوصاف، من حيث لا يحتسب فماذا تفعل شخصيان اثنتان!
لا جرم يظفر الحسن بن هانئ بنصيب من الأخبار والأوصاف والمعالم الشخصية لم يظفر به عربي غيره في المشرق أو المغرب، ولا في الزمن القديم أو الزمن الحديث. ولا جرم يحتاج بعد ذلك إلى تمييز وجهه لصحيح بين شتى الوجوه، التي عرضت على الناس باسم أبي نواس.
إلا أننا نعود فنقول: إن هذا النصيب الكبير من الشهرة لم يأت من جانب «الشخصية النموذجية» وحدها، ولا من تلاقى الشخصيتين النموذجتين بالحق وبالباطل، حيث التقت شخصية الشاعر وشخصية الخليفة.
فمن مزايا السمعة السيئة أنها تكف الحسد عن صاحبها من ذوي السمعة الحسنة.
وقد كان أبو نواس سيئ السمعة ولا مراء، وكان من أنداده الشعراء وأضرابه في سوء السمعة من يحسده، وينفس عليه مكانته ولهج الناس بأخباره وأشعاره، أما ذوو الوقار من علماء الأدب واللغة ورواة الشواهد والأمثال، فقد هان عندهم في ميزان الجد والوقار، فلم يحسدوه ولم يضنوا عليه بالشهادة «اللغوية» والتزكية العلمية، ولم ينكروا عليه البصر باللغة والسلامة من الخطأ، وأجمعوا أو كادوا يجمعون، على أنه أسبق المحدثين بعد الجاهليين والمخضرمين في مقام الاستشهاد باللفظ المحرر، والأسلوب الجزل والنسج القويم، لو كان بينهم وقار كوقار أبي الطيب أو أبي العلاء - لما خلصت له هذه الشهادة بغير بخس وانتقاص: فقد تكفلت لهم ببخسه وانتقاصه سمعة سيئة لا تتقاضاهم من عندهم مزيدا عليها، وربح أبو نواس من هذه «المزية» منزلة الأستاذين المتفقهين في اللغة والأدب، فأخذ من أهل الوقار كما أخذ من أهل المجون، ونجا من الإهمال حيث استحق الإهمال بميزان الخلق والدين.
अज्ञात पृष्ठ