وعجب الناس لهذا الرجل الذي لا يرى نظيره في الرجال، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون: ماذا دهى المارد الصغير؟ وكيف تسنى لابن سبرنجفيلد المتواضع، الذي لم يعرف سلطانا ولا جاها، أن يأخذ الطريق هكذا على ابن وشنطون الجبار المدل بماله ومنعته ونفوذه؟
ولكن هاجسا يهجس في نفوسهم أن للحق سلطانا دونه كل سلطان، وعزة يستخزي عندها كل اعتزاز، ومنعة ترتد عنها كل مطاولة؛ وأن الباطل مهما تنمر ومهما استعدى على الحق من أساليب بهتانه وألاعيب مكره، لا يكون منه إلا كما يكون الليل من وجه الصباح. أدرك الناس أن خير خادم للناس من يدرج بينهم فيحس إحساسهم، ولا يزال مهما بلغ من سمو منزلته واتساع ثقافته قادرا على أن يشاركهم عواطفهم وألا يضيق بأحلامهم، وأي هذين الرجلين أخلق بهذا؟ أهو دوجلاس الذي أثرى بغتة بحيلة لم تتطلب منه إلا أن يشتري مساحات من الأرض بأبخس الأثمان، ثم يعمل بنفوذه على أن تتخذ سكة الحديد فيها مجراها فيبيعها بما تمتلئ به خزانته، والذي باعد بينه وبين الناس وتكلف مظهرا أرستقراطيا تطرب له نفسه ولا ترتاح إلا له؟! أم هو لنكولن الذي ما برح يأكل من كده، والذي ظل في الناس على رجاحة عقله وعلو همته أحد الناس، والذي لا يطيب له العيش إلا إذا استشعرت نفسه آمال الناس وآلامهم، ولا يحلو له السمر إلا حيث يجلس في قوم ارتفعت بينه وبينهم الكلفة، وازدادت الألفة مهما يكن من الفوارق العلمية أو الفوارق المدنية؟!
تحدث أبراهام مرة يصف دوجلاس فقال: «لقد سوته الطبيعة بحيث إن ضربه السوط إذا نزلت على ظهره تؤلمه وتؤذيه، بينما هي لا تؤلم ولا تؤذى إذا نزلت على ظهر أي شخص غيره!» وما كان أبراهام مسرفا في قوله، وما نحن بمسرفين إذا قلنا إن أبراهام قد سوته الطبيعة بحيث يحس ضربة السوط على ظهره إذا نزلت على ظهر أحد غيره من الناس.
وما كان أبراهام يطمع من وراء هذا النزال أن ينال لنفسه شيئا، وهل عرفت في خلقه غميزة منذ كان يقطع الأخشاب في الغابة ليشتري بالمئات من شرائحها سروالا؟ إنه منذ صدر شبابه يسير إلى غاية، شعر بذلك أو لم يشعر به، فلقد استقر في نفسه من مقت الرق ما لا يستطيع أن يقعد معه عن العمل أو ينصرف عن الغاية، فكانت ثمة عزيمة تهون أمامها جسيمات الأمور، وكانت ثمة رسالة يحلو في سبيلها الجهاد، ومرد ذلك كله إلى قلب إنساني كبير ونفس مطمئنة صابرة وبصيرة، كأنما تشرف من حاضره على المستقبل فلا تقف من دونها حجب الغيب.
إنه اليوم ينافس دوجلاس على مقعد مجلس الشيوخ، فهل كان ذلك قصارى همه؟ كلا، وما كان بعض همه أن يرقى إلى كرسي الرياسة ذاته، وإنما كان همه أن تتحقق مبادئه ولو بذل في سبيلها نفسه، ولن يكون مقعد الشيوخ أو كرسي الرياسة عنده أمرا ذا بال، إلا أن يكون وسيلة إلى السير بمبادئه إلى حيث يعتنقها الناس، وإلا فالجاه والثراء والحكم عنده من صغيرات الأمور، وهو إنما ينفر من كل أولئك بطبعه الذي يعزف عن الزهو ويتخوف دواعي البطر.
وإن أمثال ابن الأحراج هذا في تاريخ البشرية لقليلون، ولكنهم هم الذين رسموا لها طريقها، وولوها قبلتها التي ارتضوها لها، وما كان أتعس البشرية لو لم يوجد هؤلاء الذين يتمثل بهم ضميرها أناسا يمشون على الأرض.
قال أبراهام ذات يوم من أيام هذا النزال:
لست أدعي أيها السادة أني غير أناني، ولن أتظاهر بأني لا أحب الذهاب إلى مجلس الشيوخ، لن آتي هذا الادعاء المنافق، ولكني أقول لكم إنه في هذا الجدال الصارم ليس يعنيكم، ولا يعني عامة الناس في هذه الأمة، ما إذا كان القاضي دوجلاس أو ما إذا كنت أنا بحيث تسمعون عنا شيئا بعد هذه الليلة أو لا تسمعون، ربما كان هذا أمرا تافها بالنسبة لنا كلينا، وهو إذا نظر إليه تلقاء هذه المسألة العظيمة التي ربما يتوقف عليها مصير البلاد، فإنما يكون في حكم العدم.» وقال في معرض آخر: «لا تشغلوا أنفسكم بالتفكير فيما عسى أن يكون المصير السياسي لأي رجل مهما يكن ذلك الرجل، ولكن انظروا فيما تنطوي عليه وثيقة إعلان الاستقلال من حق، وإنكم لتظفرون مني بكل ما تريدون إذا وعيتم تلك المبادئ المقدسة ... وفي الوقت الذي لست أدعي فيه عدم المبالاة بأي مجد من أمجاد هذه الدنيا، أعلن أنه ما ساقني إلى هذا التطلع إلى منصب. وإني لأطلب إليكم أن تسقطوا من عقولكم أية فكرة لا مغزى لها من نجاح شخص ما، إن تلك الفكرة ليست بشيء يذكر، ولست أنا شيئا مذكورا، وكذلك ليس القاضي دوجلاس، ولكن لا تقضوا على ذلك الرمز الخالد للإنسانية؛ ألا وهو قرار استقلال أمريكا.
هذا هو أبراهام رجل المبدأ، لا يعنيه أن يظفر أو أن ينهزم، وإنما تعنيه قضية البلاد الكبرى، بل قضية الإنسانية كلها، ولن يهدأ له بال حتى تحل أو تسير في سبيلها إلى الحل.
وأنى لدوجلاس أن يقف في وجه تلك القوة العاتية؟! أنى له أن ينال من ذلك الذي يتكلم فيخيل إلى سامعيه أن الأخلاق نفسها تقول كلمتها؟! حاول دوجلاس ذات مرة أن يعبر عن عدم مبالاته بقضية الرق، فانبرى له أبراهام قائلا: «إنني أبغض مثل هذا المظهر، مظهر عدم المبالاة، إن من شأنه أن يضعف حاسة العدالة في دولتنا، وإنه ليمد أعداء النظام الدستوري السلمي بما يشبه الحق أن ينظروا إلينا كأننا منافقون، كما أنه في الوقت نفسه يمد أنصار الحرية الحقيقيين بسبب وجيه لتشككهم في إخلاصنا.» وقال أبراهام في مجال آخر: «إنكم باعتيادكم أن تطئوا حقوق غيركم إنما تفقدون بذلك حقيقة استقلالكم، وتصبحون طعمة لكل طاغية يخرج من بينكم. دعوني أخبركم أن مثل هذا إنما يعده لكم منطق التاريخ، إذا جاءت أدوار الانتخاب الآتية بحيث تجعل الحكم في قضية دردسكوت التالية وغيره من الأحكام أمرا يقبله الناس. إنكم تستطيعون أن تخدعوا كافة الناس ردحا من الوقت، وأن تخدعوا بعض الناس طول الوقت، ولكنكم لن تستطيعوا أن تخدعوا إلى الأبد جميع الناس.»
अज्ञात पृष्ठ