كانت كنساس ونبراسكا تقعان شمالي خط اتفاق مسوري، وبناء على هذا الاتفاق لا يسمح بالرق فيهما، فلما أريد تعميرهما والحث على الهجرة إليهما كخطوة نحو الغرب، جعلها الشماليون والجنوبيون مسرحا للنزاع القائم بينهما؛ فالشماليون يتمسكون باتفاق مسوري، والجنوبيون يريدون ألا يعبئوا به، وهذه هي المعضلة.
ويخطو حينئذ دوجلاس خطوة يرج البلاد بها رجة عنيفة، ويزيد مشكلة الرق تعقيدا، ويوقد نار الفتنة في البلاد، وكان دوجلاس مقرر اللجنة التي تنظر في مشكلة كنساس نبراسكا في الكونجرس، فأعلن أن تقييد حرية الولايات عمل يخالف روح الدستور الذي يقرر مبدأ سيادة الشعب، ويجعل لكل ولاية الحق أن تضع دستورها كما تريد، وعلى هذا فليترك لأهل كنساس ونبراسكا حرية الاختيار، فتكون هاتان الجهتان من مواطن الرق أو من مواطن الحرية، حسبما ينتهي إليه رأي السكان، وحمل دوجلاس الكونجرس بنشاطه ومهارته على قبول هذا المبدأ، وصدرت به لائحة.
ومعنى ذلك أن اتفاق مسوري قد نقض من أساسه، فلا عبرة اليوم إلا بما يشاء أهل أي جهة تريد الانضمام إلى الاتحاد، ولقد سرت في الشمال موجة من الهياج والسخط لن يصفها كلام، وباتت نذر الشر تتهدد البلاد.
وتنافس الشماليون والجنوبيون في الهجرة إلى كنساس، تريد كل طائفة أن تكون أكثر عددا وأعز نفرا، وأقامت كل منهما حكومة وزعمت كل حكومة أنها الجهة الشرعية، ورأى حتى أقصر الناس نظرا في هذا نذير التفرقة وشرارة الحرب الأهلية، واشتد النضال بين الجانبين عند انتخاب المجلس التشريعي، ولجأ الناس من الجانبين إلى التزوير والشغب، وقتل في ذلك الصراع فريق من كل جانب وجرح فريق، وصارت تذكر كنساس باسم كنساس الدامية، وظهر للناس أول الأمر أن الفوز للجنوبيين لكثرة عددهم، ولكن جمعيات في الشمال تألفت من أجل هذه المشكلة، جمعت المال وأمدت به من استحثتهم للهجرة، وانتهى الأمر بعد عامين بفوز الشماليين، وجاءت أغلبية أعضاء الولاية من أنصار التحرير.
بقي بعد ذلك أن تضع الولاية لها دستورا، ولا بد من مؤتمر عام لتقرير مبادئ هذا الدستور، ثم إن الولاية سوف تطالب بعد أن يتم وضع الدستور بانضمامها إلى الاتحاد، وسوف تكون مسألة الرق هي المشكلة عند وضع دستور الولاية، وسوف تكون مثار نزاع عظيم بين أنصار الرق وأنصار التحرير.
ومهما يكن من أمر كنساس، فإن وجه المشكلة الآن هو أن كل ولاية تستطيع إذا شاءت أن تقرر مبدأ الرق، ومرد ذلك كما هو واضح إلى خطوة دوجلاس.
وما كان دوجلاس ليعجز عن أن يبرر عمله أو أن يتلمس له الأوجه القانونية، وإذا عجز دوجلاس عن هذا فمن يقدر عليه؟! وإنه لأعلم الناس يومئذ بألاعيب السياسة وأضاليلها، يصدر في ذلك عن طبع وعن خبرة، ويسدد الرمية في لباقة وخفة.
ولم يكن اهتمام دوجلاس بتلك المسألة إلا جزءا من خطته التي رسمها، وأراد أن يدلف بها إلى الغاية التي لا يرى دونها غاية؛ ألا وهي الظفر بالرياسة متى حان الوقت، وهو يتحرق شوقا إليها ويتقطع تلهفا عليها، ولا يفتأ يتبين السبيل المؤدية مهما كانت وعورة مسالكها، والآن تسنح الفرصة فيقتنصها، وهو باقتناص الفرص جد خبير. موه على الناس أنه يمكن لسلطان الأمة إذ يرد مسألة الرق إلى رأي الأمة، وأنه يجعل بذلك كلمة الشعب هي العليا لا كلمة الكونجرس، وهو إنما يرمي في الواقع إلى كسب قلوب أهل الجنوب، الذين كانوا يرون من أول الأمر أن يكون لكل ولاية من الحرية ما يحفظ لها شخصيتها أن تتلاشى في الاتحاد، والذين يريدون أن يتخلصوا من اتفاق مسوري.
وكانت أوشكت أن تنتهي أثناء ذلك مدة مجلس الشيوخ، وانصرف الأعضاء سنة 1954 إلى البلاد يدعون لأنفسهم تمهيدا للانتخابات الجديدة، وكان دوجلاس نائبا عن شيكاغو في شمال إلينوى، فذهب إلى هناك يدعو لنفسه، ولكن هاله من رآه من غضب الناس عليه؛ فهو أينما تولى يجد من الناس إعراضا عنه، بل إنهم كانوا يجبهونه بالسوء من القول ويظهرون له ما كانوا يضمرون من حقد ومقت.
وإنه ليجزع ويستولي عليه الحنق إذ يرى الرايات في شيكاغو منكسة في هامات السفن، ويرى الجدران وعليها عبارات صارخة تلذع قلبه، ويسمع النواقيس تجلجل في الجو في نغمة حزينة كأنما أصبحت المدينة في مأتم شعبي، وهو يحاول أن يخطب الناس، ولكنهم يرعدون في وجهه ويسلقونه بألسنة حداد، وتتهاوى لكماتهم على أشياعه وهم بينهم قلة؛ حتى يرغموه على الرحيل، وقد امتلأ قلبه عليهم غيظا كما امتلأ منهم كمدا.
अज्ञात पृष्ठ