جاءته ذات مرة عجوز هي أرملة أحد جنود الثورة تشكو من أحد القائمين على شئون المعاشات أنه اقتطع منها ظلما نصف المعاش المقرر لها، فتأثر لنكولن أشد التأثر من حكايتها، وذهب إلى ذلك الرجل فسأله أن يرد إليها مالها، فلما رفض أن يفعل ذلك قدمه إلى المحكمة من فوره، وفي اليوم السابق للدفاع طلب إلى صاحبه أن يجيئه بكتاب في تاريخ حروب الثورة، وظل يقرأ فيه زمنا، وفي غداة دفاعه حمل على ذلك المغتصب حملة شديدة، ولبث ساعة يصف للمحكمة مبلغ ما لقي جنود الاستقلال من مصاعب وما تحملوا من آلام في سبيل قضية أمريكا الكبرى، حتى إذا بلغ في قضيته موضع اغتصاب قسط من معاش أرملة أحد الجنود، التمعت بالغضب عيناه وأربد وجهه وتدفق في حماسة قائلا: «لقد ذهب هؤلاء الأبطال وتصرمت بعدهم الأعوام، واستراح الجندي من عنائه، والآن تسعى إليكم وإلي أرملة مقوسة مضعضعة عمياء تطلب إليكم أن تردوا عنها الحيف ... نعم إنها تتوسل إلينا نحن الذين نتمتع اليوم بما اكتسب لنا أبطال الثورة من نعم، تتوسل إلينا طالبة أن نعينها متعطفين، وأن نحيمها كل يفعل الرجال، وكل ما أتساءل عنه الآن: هل نكون لها أصدقاء؟» ورد لنكولن إلى الأرملة مالها، ولم يكلفها شيئا من أجر بل لقد دفع من ماله نفقات إقامتها في أحد فنادق سبرنجفيلد ونفقات سفرها إلى مقرها، فهي إنما جاءت إليه إذ سمعت عن شممه ومروءته وحمايته للضعفاء.
واتهم بارتكاب جريمة القتل ابن متحديه القديم في مدينة نيو سالم؛ وهو آرمسترنج الذي غدا صديقا لأبراهام وظل على وفائه له حتى مات، وما إن وقع نظر أبراهام على هذه التهمة حتى كتب إلى أمه ينبئها أنه على استعداد لقبول قضيته ليدافع عنه؛ لأنه يستبعد أن يرتكب ابنها مثل هذه الجريمة، وجاءت الأرملة ملهوفة تسأل أبراهام أن يدافع عن ابنها وتؤكد له براءته مما اتهم به، ولم يكن أبراهام يعلم شيئا عن القضية ولكنه قبلها بدافع النجدة والوفاء، ولما قرأها وثق من براءة ذلك الشاب، ووقف في ساحة المحكمة يدافع عنه، وكانت تهمته تتلخص في أنه أثناء شجار عنيف بين أصحاب له وفريق آخر ضرب أحدهم على رأسه فقتله، وظل أبراهام يسرد الوقائع في أناة ووضوح، ويفند أقوال خصومه واحدا بعد الآخر حتى أقنع المحلفين أو أوشك أن يقنعهم ببراءته، ولكن أحد الشهود أقسم أنه رآه رأي العين يضرب القتيل على رأسه وأنه مات بضربته، ولما كانت المعركة حدثت ليلا سأله لنكولن كيف تسنى له أن يرى، فقال: «في ضوء القمر، وكان نوره ساطعا.» فطلب أبراهام تقويما وفتحه وقال: «انظروا أيها المحلفون، لقد كانت ليلة الحادثة من ليالي العتمة التي لا يرى فيها شيء!» وكان كذب ذلك الشاهد من أقوى أسباب اقتناع المحلفين ببطلان التهمة، وحكم القاضي ببراءة المتهم، وفرح أبراهام فرحا شديدا بإحقاق الحق وبهذا الجميل يؤديه إلى صديقه المتوفى في شخص ابنه وشخص أرملته، التي تلقت النبأ وفي مقلتيها دموع الشكر والفرح، وفي قلبها الحب والإجلال لذلك المحامي الذي بذل أعنف الجهد، ولم يقبل شيئا مما قدم له من أجر.
وحدث مرة أثناء محاكمة متهم بجريمة قتل أن حمل أبراهام في عنف على ذلك المتهم، وكان الدفاع عنه يقوم على أساس أنه مجنون، ولما خرج لنكولن من المحكمة سمع عرضا أحد المحامين يقرر وقد سمع اسم المتهم أنه مجنون حقا، وأنه يعرفه من زمن طويل، وقد خبر بنفسه خبله في أمور كثيرة، وفي اليوم التالي ذكر لنكولن لصديقه هرندن، وهما في الطريق إلى المحكمة، أنه لم ينم ليله من شدة ما ساوره من ألم لحملته على المتهم وقسوته عليه، ومما قاله: «لقد سلكت هذا السبيل مقتنعا أنه يدعي الجنون، وإني لأخشى الآن أن أكون آذيته بما كان من عنفي عليه، وقد يكون ذلك المسكين مجنونا حقا، وإذا كان كذلك فهو لا يتبين باطل فعلته؛ وإذن فأنا المبطل إذ أعين بقولي على عقابه.» وظل أبراهام كسيف البال مهموما لا يفتر له هم.
وجاءته سيدة تملك أرضا غالية الثمن تسأله أن ينظر في مقدار ما فرض على أرضها من ضريبة؛ ليقدم دعوى إلى المحكمة إن كانت تدفع أكثر مما يجب، وعمد أبراهام إلى أدواته القديمة فعاين الأرض وقاسها وأحكم قياسها فوقع على أمر آخر، وذلك أن السيدة تضع يدها على مساحة أكبر من حقها، حسب ما يتيحه لها الثمن الذي دفعته؛ وذلك لخطأ وقع فيه البائع، فأهمل أبراهام مسألة الضريبة وطلب إلى السيدة قبل كل شيء أن تدفع ثمن باقي المساحة ليؤدى إلى ورثة البائع، فغضبت السيدة وثارت ثائرتها، فأعلنها أنها إن لم تدفع فسيتقدم بدعوى ضدها، وأذعنت السيدة، ودفعت المال المطلوب فحمله إلى الورثة، وأدى لكل منهم نصيبه منه حسب ميراثه.
هذا هو لنكولن المحامي تراه يسير على نهج من طبعه، وتراه يسمو بالمهنة، فيجعل منها مسألة إنسانية غايته فيها أن يحق الحق وهو فيها - كما هو في غيرها - الرجل العظيم الذي يبث فيها من روحه، ويلقي عليها نور عبقريته.
متاعب وآلام
وماذا يتعبه اليوم ويؤلمه وقد أصبح في سبرنجفيلد وفي إلينوى كلها المحامي العظيم القدر الذاهب الصيت؟! ماذا عسى أن يتعب أبراهام وقد دفع دينه وبات في سعة من الرزق؟! لقد كان عسيا أن ينعم اليوم بهدوء البال وقد أزيح عن كاهله شقاء أمسه، فما باله يراه الناس مهموما كلما وقعت أعينهم عليه في الطريق حتى لتأخذهم به شفقة تشبه أن تكون رثاء لحاله، وإن دعوتهم إياه اليوم لنكولن العجوز كادت تطغى على دعوتهم إياه أيب الأمين، ولم يك يومئذ بالعجوز إذا نظرنا إلى سنه؛ فما تجاوز الأربعين إلا قليلا، ولكن مسحة الهم في وجهه المسنون ونظرات الحزن في عينيه المتسائلتين ومضي الألم في شفتيه المزمومتين؛ تجعله يبدو أكبر من سنه في أعين ناظريه.
وكثيرا ما يراه الناس في الطريق وكأنما أخذته عن نفسه حال، فما في وجهه غير دلائل الهم الذي يجيش في نفسه، ويحييه الناس جميعا إذا مر بهم أو إذا مروا به، فهو حبيب إلى نفوسهم، وقل في المدينة من يجهله، وإنهم ليتبينون شخصه من بعد بقامته المدبدة وخطواته التي يعرفونها وسرواله الذي ما زال قصيرا يكشف جزءا من ساقيه، فإذا دنا منهم نظروا إلى وجهه الذي أحبوه، والذي يملؤهم انجذابا إليه وعطفا عليه ما يرتسم فوقه من دخائل نفسه، فضلا عما فيه من معاني البساطة والدماثة وحسن الطوية، وهو يرد تحية ذاك بقوله «سعد صباحك يا عزيزي الأخ»، أو تلك بقوله «طاب يومك يا أختاه»، ثم ينطلق وكأنما يحس كل من لقيه كأنما سرى إليه شيء من همه.
وكثيرا ما كان يقف وهو في طريقه إلى بيته عند الظهيرة أو في المساء يتحدث إلى هذا، ويسأل ذاك عن حاله، ويتم لصديق أو جار حكاية كان قد بدأها من قبل، أو يعلق على حديث محدثه بنادرة، أو يذكره من أمسه بما يشبه حاله اليوم، أو يستخرج من كلامه عبرة أو عظة، وقد ألف الناس مرآه على هذه الصورة، وألفوا أن يستوقفوه وأن يستوقفهم ولو طال بهم الوقوف.
ويسأل الناس إذ يرونه أحيانا يضحك ملء نفسه ماذا يكربه ويلقي ذلك الهم على محياه، فإنهم ليحسون أن ضحكه إذا ضحك وأن نادراته إذا تندر إنما هي جميعا متنفس يلجأ إليه ليخفف عن نفسه بعض ما بها، يحسون ذلك إحساسا صادقا، فليس يقع مرحه في نفوسهم كما يقع مرح غيره، فما يذوقونه إلا وفيه طعم الهم.
अज्ञात पृष्ठ