وذهب لنكولن في المساء إلى هرمسبرج وخطب الناس كما وعد، وكانت بلتيمور هي المدينة التي اعتزم المجرمون أن يقتلوه فيها، وهي في طريقه إلى العاصمة، فعاد لنكولن إلى فيلادلفيا قبل الموعد المضروب، وركب ومن معه قطارا عاديا، كان قد استبقى بناء على إشارة قادمة ليحمل «طردا» هاما إلى وشنطون، وترك لنكولن القطار الخاص الذي كان معدا لسفره، فمر ببلتيمور قبل الموعد المعروف، ففوت بذلك على الكائدين كيدهم فكانوا هم المكيدين.
وفي الساعة السادسة من صباح اليوم التالي بلغ الرجل القادم من الغرب ومن معه وشنطون، فدخل المدينة على حين غفلة من أهلها، اللهم خلا سيوارد ورجلا آخر كانا على علم بمقدمه فلقياه، وركب لنكولن إلى فندق لينتظر بضعة أيام حتى يحتفل بتسلمه أزمة الحكم.
دخل الزعيم لنكولن عاصمة البلاد في مثل تلك الساعة المبكرة وفي مثل تلك الحال المتواضعة، ليجلس في كرسي الرياسة الذي جلس فيه من قبل وشنطون، دخل ليحمل العبء وليبدأ في حياته مرحلة من الجهاد والجلاد دونها كل ما سلف من جهاد وجلاد.
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
أقام لنكولن في الفندق ينتظر يوم الاحتفال، وإنه ليحس أنه كالغريب في هذه المدينة العظيمة، ولقد كان كثير من أهلها يتوقعون قبل وصوله أن تصلهم الأنباء عن مقتله في الطريق، فلما فوت على الماكرين قصدهم ودخل المدينة ولم تزل غافية، أصاب المؤتمرين به كمد وغم، ولكن هل فاتت الفرصة فلا سبيل لهم إليه بعدها؟ كلا، فما يزال الكائدون يتربصون به حتى لقد سرت في الناس إشاعة قوية أنه لن يحتفل بالرئيس الجديد، وأنه راجع إلى سبرنجفيلد قبل ذلك اليوم حيا أو ميتا.
وكانت المدينة إلى أهل الجنوب أكثر ميلا منها إلى أهل الشمال، وكان سادتها وكبراؤها ممن يقتنون العبيد ويتمسكون بنظام العبيد، وكانت تقع عين القادم إلى المدينة على العبيد رائحين غادين، ولقد كان هذا منظرا تنفر منه عينا لنكولن وهو يطل من الفندق على المدينة، وكان ذوو النفوذ من أهلها يكرهون الجمهوريين ولا يشيرون إليهم إلا بقولهم الجمهوريين السود؛ لذلك أحس أبراهام أنه في جو غير جوه، كالنبات نقل إلى حيث لا يجدي معه ري ولا ينفع غذاء.
وجلس أبراهام يفكر ويتدبر؛ فإذا امتد إلى الحاضر فكره رأى كيف تشيع الفتنة، وكيف يستفحل الشر، وكيف يزلزل بناء الاتحاد حتى لينهار حجرا بعد حجر؛ وإذا استشرفت للمستقبل نفسه، رأى ظلمات فوقها ظلمات؛ فالحرب - كما يبدو له - واقعة لا محالة، ما لم يحدث ما ليس في حسبان أحد، وهي إذا شبت نارها واستعرت اكتوى بسعيرها أبناء الوطن الواحد وأصحاب المصلحة الواحدة، إنها حرب سوف تكون بين نصفي شعب لن يكون بقاؤه وسعادته إلا في اتحاد كلمته والتئام شمله.
وليت الفتنة اقتصرت على الناس ولم تمتد إلى الحكومة، إذن لكان أهون على الرئيس وعلى الشعب، فها هي ذي كما رأينا قد اندست حتى تغلغلت في وحدات الجيش والبحرية والسادة المسئولين من رجال الدولة، ولقد وقف بوكانون حائرا لا يدري ما يأخذ مما يدع، حتى لم يعد في إمكانه أن يحسم الشر، فكان وجوده حتى ذلك اليوم على رأس الحكومة شرا على شر.
ولكن أبراهام لم يك من طراز بوكانون، وحسبه عزمه المصمم الجبار في هذا الموقف الرهيب، هذا إلى إخلاصه وكراهته للعدوان، ويقينه الذي لا يداخله شك ولا يحوم حوله شيء مما ينسج الباطل من وهم، وما يصور من ريبة.
ولقد أشفق من لم يكونوا يعرفونه، بل لقد جزع بعض الناس من أن تلقى أزمة الحكم في مثل هذه الظروف في يدي رجل هو، في زعمهم، لم تحسن يداه أن تقبضا على شيء غير المعول. وعجبوا أن تترك الأمور للرجل القادم من الغرب، لذلك المحامي الذي كان من قبل يخطط الأرض ويوزع البريد، والذي نشأ بين الأحراج ونما كما ينمو وحشي النبات. وسخط أعداؤه ممن لا يجهلون مقدرته، واشتد بهم الغيظ ألا يجلس في كرسي الرياسة يومئذ إلا هذا الجمهوري الأسود، كما شاء لهم حنقهم أن ينعتوه، هذا الذي يعد - كما يزعمون - في الجمهوريين كبيرهم الذي علمهم ما يلوكونه من عبارات تؤذي الأسماع وتخز القلوب وتقبض الصدور!
अज्ञात पृष्ठ