وانطلق القطار يمشي الهوينا وهم ينشدون للرئيس نشيدا كانوا أعدوه، وقطرات المطر تنزل على رءوسهم الحاسرة كأنها دموع منصبة من السماء، وهو في مؤخرة العربة ينظر إليهم خلال دموعه، ولكم التقت ساعتئذ قطرات السماء بما فاض من المآقي، حتى غاب القطار وغاب في مؤخرة العربة شخص الرئيس ... ورحل أبراهام ليعود بعد جهاد شديد ومراس، فإذا هو شهيد تذرف الدموع عليه أمة بأسرها.
ذهب أبراهام ليواجه العاصفة، وإنه ليراها اليوم عاصفة دونها تلك العواصف التي طالما هبت في الغابة هوجاء عاتية، فزعزعت باسقات الدوح وشعثت كثيفات الألفاف وأفزعت الرجال والدواب. إنه يراها اليوم عاصفة من عمل الإنسان لا من عمل الطبيعة، وما أهول ما يفعل بنو الإنسان حين ينسون إنسانيتهم، فتستيقظ فيهم غرائزهم التي دبت فيهم أول ما دبوا على هذه الأرض!
رحل «الرجل القادم من الغرب»، كما اعتاد أن يسميه أهل العاصمة وغيرهم من أهل المدن الشرقية السابقة في المدنية، وتقدم الربان ليقود السفينة ودوي الأنواء في مسمعيه.
وقضى في رحيله إلى العاصمة اثنى عشر يوما. وعلم الناس بهذا الرحيل، فكانوا يلقونه في المدن التي يمر بها مرحبين، وقد تلاقت جموعهم على نحو لم تشهده البلاد من قبل، فما في الناس إلا من ملكه حب الاستطلاع، وكثير منهم كانت تدفعهم المحبة إلى هذا اللقاء.
وكان قد عقد النية على أن يظل صامتا إلا ما يكون من تحية يرد بها على ما كان يلقاه من تحيات، ولكن إصرار الناس في كل مكان على أن يسمعوا حديثه جعله يتحلل مما اعتزم، ثم إنه رأى أن هذه كانت آخر فرصة يتحدث فيها إلى عامة الناس، وهم الذين يعول عليهم ويطمع أن يتخذ منهم ظهيرا فيما هو مقدم عليه من كفاح.
وكانت له في خطبه أثناء ذلك المسير خطة رشيدة، فقليلا ما كان يبرم أمرا، أو يقطع في المسائل القائمة برأي، وإنما كان يشرح الأمور حتى تستبين، ثم يتساءل عن أوجه الصواب تاركا الناس يتدبرون حتى تأتيهم البينة، تتمثل ذلك في مثل قوله في إنديانا بولس: «أي مواطني، لست بمبرم أمرا إنما ألقي عليكم أسئلة لتتدبروها ...»
ولقد تكلم في هذه المدينة فأشار إلى ما كان يجري على الألسن يومئذ حول الاتحاد في رد الولايات الخارجة عليه بالقوة، ولقد عد أنصار الجنوب ذلك العمل عدوانا، فتساءل الرئيس: هل يكون في الأمر عدوان إذا لجأت حكومة الاتحاد إلى المحافظة على ما تملك هناك من عقار، أو إذا حافظت على سبل مواصلاتها وحرصت على جباية المال المقرر على البضائع المستوردة؟
واستقبل أبراهام في سنسناتي استقبالا لم تر هذه المدينة لأحد من قبل نظيرا له، وتزاحم الناس عليه يريدون رؤيته وباتت المدينة في مثل فرحة العيد؛ ففيها الأنوار الوضاءة والأناشيد الصداحة والجموع الغفيرة المستبشرة، وفيها ما هو أسمى من سمات العيد هذه؛ ألا وهو الحب الصادق تفيض به القلوب.
ومر بحدود كنطكي وهي ولاية من ولايات الرق تشتد فيها الدعوة إلى الانسحاب من الاتحاد، وهي تلك الولاية التي نشأ فيها أول ما نشأ، فقال يوجه الكلام إلى أهلها: «أي مواطني أهل كنطكي، هل لي أن أدعوكم بما أدعوكم به؟ إني في موقفي الجديد لا أجد حادثا ولا أحس ميلا يدعوني أن أغير كلمة من هذا، فإذا لم تنته الأمور إلى الخير فثقوا أن الخطأ في ذلك لا يكون خطئي ...»
وفي بيتسبرج أفصح عن سروره؛ إذ كان استقباله استقبالا شعبيا لا أثر للحزبية فيه، ثم قال: «إذا لم تجتمع كلمتنا الآن لننجي سفينة الاتحاد القديمة الطيبة في رحلتها هذه، فلن يكون ثمة من فرصة بعدها لقيادتها إلى رحلة غيرها.»
अज्ञात पृष्ठ