قال زان: «لكن النظام القديم لم يكن عديم النفع تماما، أليس كذلك؟ فقد كان أفراد الشرطة يتلقون رواتب جيدة. وكانت الطبقات الوسطى من المجتمع تنتفع من ورائه كثيرا، ضباط المراقبة، والعاملون بالخدمة الاجتماعية، وحكام الصلح والقضاة وموظفو المحاكم، كانت صناعة مربحة تقوم بالكامل على مخالفي القانون. وكان المشتغلون بمهنتك يا فيليشيا يتربحون جيدا بممارسة مهاراتهم القانونية الباهظة التكاليف لإدانة المتهمين كي يتسنى لزملائهم نقض الحكم في الاستئناف. لكن في الوقت الحالي تشجيع المجرمين يعد رفاهية لا نستطيع تحمل كلفتها، حتى إن كانت ستوفر حياة كريمة للليبراليين من الطبقة المتوسطة. لكني لا أظن أن مستعمرة مان العقابية هي آخر مشكلاتك.»
قال ثيو: «يوجد انزعاج من أسلوب التعامل مع العمال الوافدين. فنحن نستقدمهم كالرقيق ونعاملهم معاملة العبيد. ولماذا يوجد حصة محددة لأعدادهم؟ دعهم يأتون ويغادرون كيفما أرادوا.»
كان ولفينجتون قد انتهى من رسم أول صفين من الخيالة الذين كانوا يختالون بزهو على ورقته. رفع عينيه وقال: «أتقترح أن نفتح باب الهجرة دون قيود؟ أتذكر ما حدث في أوروبا في التسعينيات؟ لقد ضاق الناس ذرعا بالحشود التي اجتاحت بلادنا قادمة من بلاد لا تقل مواردها الطبيعية عن مواردنا، ولكنهم سمحوا لحكامهم بأن يسيئوا حكمهم لعقود طويلة بسبب جبنهم وتكاسلهم وغبائهم، وجاءوا متوقعين أن يستغلوا منافعنا التي اكتسبناها على مدى قرون بذكائنا وعرقنا وشجاعتنا، بينما يشوهون ويدمرون عرضا الحضارة التي كانوا يتلهفون أن يصيروا جزءا منها.»
رأى ثيو أنهم جميعا صاروا يتحدثون بلسان رجل واحد. وأيا كان من يتحدث منهم، فهو يتحدث بلسان زان. قال: «نحن لا نتحدث عن الماضي. نحن الآن لا نعاني نقصا في الموارد، أو الوظائف أو المساكن. وسياسة تقييد الهجرة في عالم يحتضر ويعاني نقصا في السكان ليست سياسة كريمة على الإطلاق.»
قال زان: «هي لم تكن يوما كذلك؛ فالكرم فضيلة تصلح للأفراد لا الحكومات. عندما تكون الحكومات كريمة فإنها تجود بأموال الآخرين وأمنهم ومستقبلهم.»
حينها تكلم كارل إنجلباتش للمرة الأولى. كان يجلس جلسته التي اعتاد ثيو أن يراه عليها؛ إذ كان يميل إلى الأمام قليلا في كرسيه، وقد أحكم قبضتيه وأراحهما على الطاولة، إحداهما بمحاذاة الأخرى تماما ووجههما إلى الأسفل وكأنما يخبئ داخلهما شيئا قيما لكن ينبغي أن يعرف المجلس بامتلاكه له، أو ربما كما لو كان على وشك أن يلعب لعبة طفولية فيفتح إحدى قبضتيه ثم الأخرى ليكشف عن عملة معدنية نقلها من يد إلى أخرى. كان يبدو كنسخة دمثة من لينين - والأرجح أنه مل سماع ذلك - برأسه المدبب الأملس وعينيه السوداوين النبيهتين. كان يكره قيد ربطات العنق وأزرار الياقات، وعزز ذلك الشبه حلته المصنوعة من الكتان ذات اللون البني المصفر التي كان يرتديها دائما، والتي كانت متقنة الصنع ولها ياقة عالية وأزرار على الكتف اليسرى. لكنه اليوم كان يبدو مختلفا للغاية. رأى ثيو منذ أن وقعت عيناه عليه أنه مريض بمرض مميت، بل ربما كان يقف على أعتاب الموت. كانت رأسه مجرد جمجمة يعلوها غشاء من الجلد مشدود بإحكام على عظامه الناتئة، ورقبته الهزيلة تبرز من ياقة قميصه مثل رقبة السلحفاة، وكان جلده المبقع مصابا باليرقان. لكن تلك النظرة لم تكن غريبة عن ثيو. وحدهما عيناه لم تتغيرا، كانتا متقدتين من محجريهما كنقطتي ضوء صغيرتين. لكن عندما تحدث كان صوته قويا كعادته. بدا كأن ما تبقى من قواه كان مركزا في عقله وصوته الشجي والرنان الذي يعبر به عما يدور في خلده. «أنت رجل تاريخ. وتعرف أي شرور ارتكبت على مر العصور لضمان استمرارية شعوب وطوائف وأديان بل حتى عائلات منفردة. أيا كان ما يفعل الإنسان من خير أو شر فإنه يفعله وهو يدرك أن التاريخ هو ما جاء به، وأن حياته هو قصيرة وغير مضمونة وواهية، لكن سيكون دائما مستقبلا لأمته أو لعرقه أو لقبيلته. هذا الأمل زال أخيرا إلا من أذهان الحمقى والمتطرفين. سيهلك الإنسان إن عاش دون أن يعرف ماضيه؛ وسيتحول إلى وحش إن لم يكن لديه أمل في مستقبل ما. نرى انعدام ذلك الأمل في كل دول العالم، نرى نهاية العلوم والابتكارات، باستثناء الاكتشافات التي قد تطيل عمر الإنسان أو تزيد راحته ومتعته، نرى نهاية اهتمامنا بالعالم المادي وبكوكبنا. فما أهمية ما سنخلفه وراءنا من إرث عن تلك الفترة القصيرة التدميرية التي قضيناها هنا؟ الهجرات الجماعية، والاضطرابات الداخلية الكبيرة، والحروب الدينية والقبلية التي شنت في التسعينيات مهدت الطريق لانعدام القيم الأخلاقية على مستوى العالم، فترك الناس البذر وحصد المحاصيل، وأهملوا الحيوانات، وانتشرت المجاعات والحروب الأهلية، ونهب القوي الضعيف. نرى ارتداد الناس للأساطير والخرافات القديمة، بل حتى للتضحية بالبشر قرابين، وهو ما يحدث أحيانا على نطاق هائل. من يقف وراء منع تلك الكارثة العالمية من أن تنال هذا البلد بدرجة كبيرة هم الخمسة الأشخاص الجالسون على تلك الطاولة. وبالأخص حاكم إنجلترا؛ فلدينا نظام يمتد من هذا المجلس وحتى المجالس المحلية، وهو يحتفظ بآثار من الديموقراطية لأولئك الذين لا يزالون يكترثون لها. لدينا إدارة بشرية للعمالة لا تزال تولي بعضا من العناية للرغبات والمواهب الفردية، وتضمن أن يستمر الناس في العمل حتى إن كانوا لن يتركوا وراءهم ذرية ترث ثمار مجهوداتهم. حتى مع وجود رغبة ملحة في الإنفاق، والتملك، وإشباع الرغبات الآنية، ما زلنا نملك اقتصادا قويا ومعدل تضخم منخفضا. لدينا خطط ستضمن أن يتوفر لدى آخر جيل، يملك من الحظ ما يكفي لأن يسكن في ذلك النزل المتعدد الأعراق الذي نسميه بريطانيا، مخزونا من الغذاء والأدوية الضرورية والإضاءة والمياه والطاقة. مقابل تلك الإنجازات، هل يكترث الشعب كثيرا بكون بعض العمال الوافدين غير راضين عن أوضاعهم، أو أن بعض المسنين يختارون الموت في جماعة، أو أن السلام لا يسود داخل مستعمرة مان العقابية؟»
قالت هارييت: «ألم تنأ بنفسك عن تلك القرارات؟ ليس من الشرف أن تتخلى عن المسئولية ثم تأتي لتتذمر عندما لا تعجبك نتيجة مجهودات غيرك. أنت من اخترت الاستقالة، أتذكر؟ على أي حال أنتم علماء التاريخ تحبون أن تحيوا في الماضي؛ لذا لم لا تبقون هناك؟»
قالت فيليشيا: «الرجوع إلى الوراء هو ما يألفه بالتأكيد. حتى عندما قتل ابنته، كان يرجع إلى الوراء.» أعقب ذلك التعليق فترة قصيرة من الصمت المتوتر استطاع ثيو أن يكسره قائلا: «أنا لا أنكر إنجازاتكم، لكن هل حقا سيضير إجراء بعض الإصلاحات بالنظام المستتب، والراحة والأمان، تلك الأمور التي توفرونها للناس؟ أوقفوا فعاليات راحة الموت. إن أراد الناس قتل أنفسهم - وأتفق على أن تلك طريقة منطقية لإنهاء الحياة - فأرسلوا لهم حبوب الانتحار اللازمة، لكن دون إقناع أو إرغام جماعي. أرسلوا قوة إلى مستعمرة مان العقابية وأعيدوا إليها بعض النظام. أوقفوا اختبارات الحيوانات المنوية الإجبارية، والفحوص الدورية للسيدات المتمتعات بصحة جيدة؛ فهي مهينة ولا جدوى منها على أي حال. أغلقوا المحال الإباحية الحكومية. عاملوا العمال الوافدين معاملة البشر لا العبيد. بإمكانكم أن تفعلوا كل تلك الأمور بسهولة. بإمكان الحاكم أن يجعلها تتحقق بتوقيع واحد منه. هذا كل ما أطلبه منكم.»
قال زان: «وما تطلبه كثير في نظر المجلس. كنا لنعطي وزنا أكبر لمطالبك لو كنت جالسا على جانبنا من الطاولة، وقد كان بإمكانك أن تختار ذلك. لكن موقعك الآن لا يختلف عن سائر أفراد الشعب البريطاني. أنت تريد تحقيق الغاية لكنك تغض الطرف عن الوسيلة. تريد للحديقة أن تكون غناء دون أن تطول رائحة السماد إلى أنفك المتأفف.»
هب زان واقفا وحذا حذوه باقي أعضاء المجلس واحدا تلو الآخر. لكنه لم يمد يده للمصافحة. أدرك ثيو أن جندي الجرينادير الذي اصطحبه إلى الداخل قد تحرك بهدوء ليقف بجواره وكأنما استجاب لإشارة خفية ما. وتوقع أن يشعر بيد تمسك بكتفه. دون أن ينطق بكلمة استدار وتبعه خارج غرفة المجلس.
अज्ञात पृष्ठ