قبل أن أغادر قلت: «يبدو أنك بحاجة إلى مساعدة إضافية. لم لا تقدم طلبا بالحصول على بعض العمال الوافدين المؤقتين لخدمتك؟ لا بد أنك ستكون مخولا للحصول عليهم.»
لكنه رفض تلك الفكرة قائلا: «لا أريد أي غرباء هنا، وبخاصة العمال الوافدين. فأنا لا أثق بهم. سيكون ذلك بمثابة طلب بأن أقتل تحت سقف بيتي. ومعظمهم لا يعرف معنى العمل ليوم كامل. من الأفضل الاستعانة بهم لإصلاح الشوارع وتنظيف المجاري وجمع القمامة، تلك الأعمال التي يكونون فيها خاضعين للإشراف.»
قلت: «لكن العمال المنزليين ينتقون بعناية شديدة.» «ربما، ولكني لا أريدهم.»
نجحت في التملص دون أن أقطع له أي وعود. وفي رحلة عودتي إلى أوكسفورد ظللت أفكر في طريقة لإثناء جاسبر عن قراره. فقد اعتاد على أن يحصل دائما على مراده. يبدو الأمر وكأنه يطالبني متأخرا بتسديد حساب جميع الخدمات التي قدمها لي خلال الثلاثين عاما الماضية من توجيه خاص وحفلات عشاء فاخرة وتذاكر حفلات الأوبرا والمسرح. لكن فكرة مشاركة منزل شارع سانت جونز، واقتحام خصوصيتي، وتحمل عبء رعاية رجل مسن صعب المراس تثير اشمئزازي. إنني مدين لجاسبر بالكثير، لكني لا أدين له بذلك.
بينما كنت أقود سيارتي داخل المدينة، رأيت طابورا طوله نحو مائة ياردة خارج مبنى الاختبارات بجامعة أكسفورد. كان يتكون من كهول ومسنين منظمين ومهندمي الثياب، ولكن النساء كن أكثر من الرجال. وقفوا ينتظرون بهدوء وصبر بروح المشاركة، والتطلع الخفي، وغياب التوتر مما يتسم به طابور لدى جميع أفراده تذاكر دخول؛ فالدخول مضمون، وثمة توقع أكيد بأن المرح الذي سيحظون به بالداخل يستحق الانتظار. لوهلة انتابتني الحيرة ثم تذكرت: المبشرة روزي ماكلور تزور المدينة. كان حريا بي أن أدرك ذلك على الفور؛ فقد كانت الدعاية لزيارتها تلك في كل مكان. روزي هي أحدث وأنجح المؤدين على التلفاز الذين يبيعون الخلاص ويجنون ثروات طائلة من بضاعة يتهافت عليها الناس دوما ولا يكلفهم منحها شيئا. في أول عامين بعد أوميجا، ظهر روجر الراعد ورفيقه سام المسهب، ولا يزال يوجد متابعون لفترة روجر التلفزيونية الأسبوعية. كان روجر، ولا يزال، خطيبا مؤثرا بالفطرة، فهو رجل ضخم له لحية بيضاء، يتعمد قولبة نفسه حسب الصورة الذهنية السائدة لرسول من رسل العهد القديم، فيصب الوعيد الإلهي بصوت جهور زادته بقايا لكنته الشمال أيرلندية سلطوية. كانت رسالته بسيطة ولا جديد فيها: عقم البشر هو عقاب الرب على عصيانهم وإثمهم. ولن يرفع عنهم غضب الرب المستحق سوى التوبة، وأفضل برهان على التوبة هو التبرع بسخاء لتغطية تكاليف حملة روجر الراعد. كان لا يطلب المال بنفسه قط؛ فقد كانت تلك مهمة سام المسهب. كانا ثنائيا مؤثرا تأثيرا غير عادي في بداياتهما، ومنزلهما الضخم على كينجستون هيل خير شاهد على نجاحهما. في السنوات الخمس الأولى التي أعقبت أوميجا، كان لدعوتهما تلك مصداقية نوعا ما، فقد كان روجر ينتقد بشدة العنف الذي يحدث داخل المدن، ومهاجمة النساء العجائز وهتك أعراضهن، والانتهاك الجنسي للأطفال، وحصر معنى الزواج في مجرد كونه عقدا ماليا، والطلاق الذي صار عاديا، وتفشي الخيانة وانحراف الغريزة الجنسية. كان يتلو آيات العهد القديم المليئة باللعنات واحدة تلو الأخرى وهو يرفع عاليا كتابه المقدس الذي تبدو عليه آثار كثرة الاستعمال. غير أن مدة صلاحية منتجه ذلك لم تكن طويلة. فمن الصعب أن تنجح في أن تثور على الأعراف الجنسية للمجتمع في عالم ساد فيه الفتور، وأن تدين الانتهاك الجنسي للأطفال عندما لا يعود ثمة وجود لأطفال، وأن تشجب أعمال العنف داخل المدن في وقت باتت فيه المدن تصير آمنة لكبار السن الطيعين. لم ينتقد روجر قط عنف الأوميجيين ولا أنانيتهم؛ فغريزة حفظ الذات قوية لديه.
والآن بعد أن أفل نجمه، ظهرت روزي ماكلور. بزغ نجم روزي اللطيفة التي قدمت من ولاية ألاباما لكنها غادرت الولايات المتحدة في عام 2019، على الأغلب لأن سلعة الهيدونية الدينية التي تبيعها موجودة بوفرة هناك. كانت تعاليم الإنجيل طبقا لروزي بسيطة: الله محبة، والمحبة تبرر كل شيء. أعادت إحياء الأغنية الشعبية «الحب هو كل ما تحتاجه.» التي غنتها فرقة «البيتلز» الغنائية التي كانت مكونة من مجموعة شباب يافعين من ليفربول في الستينيات، وكانت تستهل اجتماعاتها الحاشدة بتلك الأغنية المتناغمة المتكررة وليس بترنيمة. من وجهة نظرها أن المجيء الثاني لن يحدث في المستقبل بل يحدث الآن بينما تحصد أرواح المؤمنين واحدا تلو الآخر بعد انقضاء أعمارهم الطبيعية وانتقالهم إلى العلياء. تذكر روزي بالتفصيل الشديد المباهج التي بانتظارهم. كجميع المبشرين الدينيين، تدرك أن تخيل المرء دخوله الجنة لن يكون مرضيا له بالقدر الكافي إن لم يستطع تخيل الأهوال التي سيلقاها غيره في الجحيم. لكن الجحيم الذي تصفه روزي ليس مكانا للعذاب بقدر ما هو مكان أشبه بفندق رديء سيئ الإدارة يضطر نزلاؤه غير المنسجمين لتحمل رفقة بعضهم لبعض للأبد، وغسل ملابسهم بأنفسهم مع نقص المرافق، مع أنه من المفترض أنهم لن يحرموا المياه المغلية. كما ذكرت أيضا بنفس التفصيل مباهج الجنة. «في بيت أبي منازل كثيرة .» وتطمئن روزي أتباعها أن بانتظارهم منازل تناسب جميع الأذواق وجميع درجات التقوى، وأن قمة النعيم محجوزة للقلة المختارة. ولكن كل من يستجيب إلى دعوة روزي للحب سيجد مكانا مستطابا، شاطئا جميلا ينعم فيه للأبد بالطعام، والشراب، والشمس والمتعة الجنسية. الشر لا مكان له في فلسفة روزي. أسوأ ادعاء هو أن البشر يقعون في الخطيئة لأنهم لم يفهموا قانون الحب. علاج الألم هو حبة مسكن أو إسبيرين، وعلاج الوحدة هو الاطمئنان إلى العناية الإلهية، وعلاج حزن الفقد هو التيقن في اجتماع الشمل. يجب ألا يطالب أي من البشر بالمغالاة في إنكار الذات لأن الرب، كونه محبة، لا يريد لأبنائه سوى السعادة.
تركز روزي على تدليل الجسد الدنيوي وإشباع رغباته، ولا تترفع عن إعطاء بضع نصائح للجمال خلال عظاتها التي تنظم تنظيما باهرا، بالجوقة المكونة من مائة فرد يرتدون الأبيض من عازفي آلات النفخ ومرتلي الإنجيل الذين يرتصون في درجات تحت كشافات الضوء المتواتر. يشاركهم الحشد ترديد القوافي المبهجة، ويضحكون ويبكون ويلوحون بأذرعهم مثل دمى الماريونيت البلهاء. تبدل روزي نفسها فساتينها المبهرجة ثلاث مرات على الأقل في كل اجتماع من اجتماعاتها الحاشدة. تزعم روزي أن الحب هو كل ما نحتاجه. ويجب ألا يحرم أحد من أن يكون له ما يحبه. ليس بالضرورة أن يكون شخصا آخر؛ فيمكن أن يكون حيوانا؛ قطة أو كلبا، أو حديقة، أو زهرة، أو شجرة. فالطبيعة كلها عبارة عن كيان واحد، يتواصل بالحب، ويسمو بالحب، ويبرأ من خطاياه بالحب. قد يحسب المرء أن روزي لم تر قط قطة ممسكة بفأر. في نهاية تلك التجمعات الحاشدة، يعانق معتنقو مذهبها السعداء بعضهم بعضا عشوائيا ويضعون الأوراق النقدية في صناديق التبرع بحماس أهوج.
في منتصف التسعينيات، اتجهت الكنائس الرسمية، وبخاصة كنيسة إنجلترا، من عقيدة الخطيئة والتوبة إلى مذهب أقل تشددا؛ مذهب جمع بين المسئولية الاجتماعية والإنسانوية العاطفية. لكن روزي ذهبت لأبعد من ذلك، فنفت فعليا الأقنوم الثاني من أقانيم الثالوث المقدس وكذلك صليبه، الذي استبدلت به كرة ذهبية اللون ترمز للشمس في أوجها بدت شبيهة بلافتة حانة فيكتورية مبهرجة. ما لبث ذلك التغيير أن لاقى شعبية. فحتى لغير المؤمنين مثلي، لم يكن الصليب، الذي يمثل همجية السلطة وقسوة البشر التي لا مناص منها، رمزا مريحا.
الفصل الثامن
قبيل التاسعة والنصف من صباح يوم الأحد، انطلق ثيو في رحلته إلى بينسي قاطعا بورت ميدو سيرا على الأقدام. لقد وعد جوليان وكان وفاؤه بوعده لها مسألة كبرياء لا تراجع فيها. لكنه اعترف لنفسه أن لديه سببا أقل نبالة للوفاء بوعده. كانت تلك الجماعة تعرف من هو وأين يمكنهم العثور عليه؛ لذا فمن الأفضل له أن يكلف نفسه عناء لقائهم مرة واحدة ويزيح عن عاتقه ذلك الأمر، من أن يقضي الأشهر القليلة القادمة في ترقب وجل من لقاء جوليان كل مرة يذهب فيها إلى الكنيسة أو يذهب إلى التسوق في السوق المغطى. كان ضوء النهار ساطعا، والهواء باردا لكنه جاف، والسماء تبدو صافية بلونها الأزرق الزاهي، وكان يسمع تحت قدميه صوت خشخشة العشب الذي تركته برودة الصباح الباكر منتعشا. كان النهر يبدو مثل شريط مموج يعكس لوحة السماء، وبينما توقف لينظر لأسفل أثناء عبوره الجسر، اقترب سرب صاخب من البط وإوزتين، فاغرين مناقيرهم يسألون الطعام كما لو كان لا يزال يوجد أطفال يرمون لهم بفتات الخبز ثم يفرون هاربين في خوف تشوبه الإثارة من إلحاحهم الصاخب. كانت القرية الصغيرة خاوية. كانت بيوت المزارعين على يمين المرج الأخضر لا تزال قائمة لكن معظم نوافذها كان موصدا بالألواح الخشبية. حطمت الألواح في بعض المواضع فلمح من خلال شظايا ونتوءات الزجاج المهشم الحادة التي تحيط بإطارات النوافذ بقايا ورق حائط متقشر منقوش بنقشات ورود اختير بعناية شديدة يوما ما، أما الآن فلم يبق منه سوى بقايا بالية، وقفت كشواهد هشة على الحياة التي غادرتها. كانت الألواح الأردوازية لأحد الأسطح قد بدأت تنزلق، كاشفة عن الألواح الخشبية المتعفنة، وتحولت الحدائق إلى قفور تغطيها أعشاب وحشائش وصلت في ارتفاعها إلى مستوى الكتف.
अज्ञात पृष्ठ