الفصل الثالث والثلاثون
لم يكن الطفل بحاجة إلى أي تشجيع على الرضاعة. كان طفلا مفعما بالحيوية، نظر إلى ثيو بعينيه اللامعتين غير المركزتين، ملوحا بكفيه اللذين بدوا كنجمتي بحر، بينما أسند رأسه إلى ثدي أمه، وفمه الصغير يبحث بنهم عن حلمتها. كان من المدهش أن يتمتع مخلوق حديث عهد بالحياة مثله بذلك القدر من النشاط. رضع ثم نام. استلقى ثيو بجوار جوليان ولفهما بذراعه. شعر بملمس شعرها الناعم المتعرق على وجنته. واستلقيا على الملاءة المتسخة المكرمشة وسط رائحة الدم والعرق والفضلات، إلا أنه لم يشعر في حياته قط بسلام كالذي شعر به، ولم يدرك من قبل أن البهجة يمكن أن تمتزج بعذوبة بالألم. استلقيا شبه نائمين في سكون تام، وبدا لثيو أن جسد الطفل الدافئ يفوح برائحة الرضع الغريبة المحببة، جافة ونفاذة كرائحة الكلأ، كانت غير دائمة لكنها طغت حتى على رائحة الدم.
ثم تململت جوليان وقالت: «كم مر من الوقت منذ أن غادرت ميريام؟»
رفع رسغه الأيسر مقربا إياه من وجهه. «أكثر من ساعة بقليل.» «لا يفترض أن تستغرق كل ذلك الوقت. اعثر عليها رجاء يا ثيو.» «لا نحتاج إلى الماء فحسب. إن كان المنزل لا يزال مفروشا فسيكون به أغراض أخرى تريد أن تجمعها.» «لكنها لن تحضر سوى القليل منها في المرة الأولى. بإمكانها أن تعود إلى هناك في أي وقت؛ فهي تعلم أننا سنكون قلقين. اذهب إليها رجاء. أنا متيقنة من أن شيئا وقع لها.» رأت تردده، فقالت: «سنكون كلانا بخير.»
استخدامها لصيغة المثنى، وما رأى في عينيها عندما نظرت إلى طفلها، كادا يوهنان عزمه. قال: «من الممكن أن يكونوا قريبين جدا الآن. وأنا لا أريد أن أتركك. أريد أن نكون معا عندما يأتي زان.» «سنكون معا يا عزيزي. لكن ربما تكون ميريام واقعة في مأزق، ربما تكون محاصرة أو مجروحة، تنتظر المساعدة بفارغ الصبر. يجب أن أتأكد يا ثيو.»
لم يبد مزيدا من الاعتراض، بل نهض قائلا: «سأعود بسرعة قدر الإمكان.»
وقف صامتا لبضع لحظات خارج الكوخ وأصغى. أغمض عينيه عن ألوان الخريف التي كست الغابة، وعن شعاع ضوء الشمس المنعكس على اللحاء والعشب، كي يتمكن من تركيز جميع حواسه في حاسة السمع. إلا أنه لم يسمع أي شيء، ولا حتى تغريد طائر. ثم مثل عداء سريع، انطلق يعدو متجاوزا البحيرة، وعبر النفق الشجري الضيق متجها إلى مفترق الطرق، وهو يثب فوق الأخاديد والحفر، ويشعر بحوافها الجافة تتزعزع تحت قدميه، مخفضا رأسه ومائلا بجسده ليعبر من تحت الأغصان المنخفضة المتشابكة. وفي ذهنه امتزج الخوف والأمل. كان من الجنون ترك جوليان. إن كان رجال شرطة الأمن الوطني قريبين وإن كانت ميريام قد وقعت في قبضتهم، فلن يكون بوسعه مساعدتها الآن. وإن كانوا قريبين لتلك الدرجة، فسيكون عثورهم على جوليان وطفلها مسألة وقت فحسب. كان من الأفضل أن يظل معها وينتظرا، ينتظرا من الصباح المشرق حتى العصر ويتأكدا أنه لا أمل في رؤية ميريام مجددا، ينتظرا حتى يسمعا وقع الأقدام على العشب.
لكنه قال لنفسه، في محاولة مستميتة لطمأنتها، إن ثمة احتمالات أخرى. كانت جوليان محقة. ربما تعرضت ميريام إلى حادث، ربما سقطت وهي الآن مستلقية على الأرض تتساءل كم أمامه من الوقت حتى يأتي. انشغل ذهنه بتصور كارثة وقعت لها، ربما صك باب خزانة مؤن وراءها، أو سقطت في فتحة بئر متهدم لم تره، أو انهار تحتها أحد ألواح سقف متعفن. حاول أن يحمل نفسه على اليقين، أن يقنع نفسه أن ساعة واحدة هي زمن ضئيل، وأن ميريام مشغولة بجمع جميع الأغراض التي قد يحتاجون إليها، وحساب ما الذي تستطيع حمله من تلك المؤن الثمينة، وما الذي يمكن تركه حتى وقت لاحق، ناسية في خضم انشغالها بجمع المؤن كم تبدو تلك الدقائق الستون طويلة في نظر من في انتظارها.
كان قد وصل إلى مفترق الطرق ولاح أمامه، من خلال الفرجة الضيقة والسياج الواسع من الشجيرات غير الكثيفة، الحقل المنحدر وسقف المنزل. وقف لوهلة يلتقط أنفاسه، مائلا بجسده للأمام كي يخفف الألم المبرح الذي شعر به في جانبه، ثم انطلق بين نباتات القراص، والأشواك، والغصينات المتكسرة حتى خرج إلى ضوء النهار الساطع للريف المفتوح. لم يجد أي أثر لميريام. عبر الحقل، مبطئا من سرعته، مدركا أنه مكشوف وشاعرا بقلق عميق، حتى وصل إلى المنزل. كان عبارة عن مبنى قديم له سقف غير مستو من القرميد المكسو بالعفن ومداخن طويلة على الطراز الإليزابيثي، ربما كان بيت مزرعة فيما مضى. كان يفصله عن الحقل حائط منخفض مبني من الحجارة دون ملاط. كان يمر بمنتصف القفر، الذي كان يوما حديقته الخلفية، جدول ضيق يتدفق ماؤه من مصرف أعلى إلى ضفته التي يمر فوقها جسر خشبي بسيط يؤدي إلى الباب الخلفي. كانت نوافذ المنزل صغيرة وبلا ستائر، والسكون يعم الأرجاء. كان المنزل كالسراب - رمز الأمان والرتابة والسكينة التي كان يرنو إليها - الذي سيتلاشى أمام عينيه بمجرد أن يمسه. في ذلك السكون، كان صوت خرير ماء الجدول عاليا كصوت سيل جارف.
كان الباب الخلفي مصنوعا من خشب البلوط الأسود المحاطة أطرافه بالحديد. وكان مواربا. دفعه لينفتح أكثر فغمر ضياء شمس الخريف الناعم الأجحار التي رصف بها الممر المؤدي إلى الجانب الأمامي للمنزل بلون ذهبي. مرة أخرى، وقف لوهلة وأصغى. فلم يسمع أي شيء، ولا حتى تكات عقارب ساعة. على يساره كان يوجد باب من خشب البلوط، خمن أنه يؤدي إلى المطبخ. لم يكن موصدا فدفعه برفق ليفتحه. بعد سطوع النهار في الخارج، كانت الغرفة معتمة ولوهلة لم تبصر عيناه شيئا حتى تأقلمتا على العتمة التي زادت من حدتها الدعائم الخشبية المصنوعة من البلوط الداكن، والنوافذ الصغيرة التي كان يغطيها الغبار. شعر ببرودة رطبة، وبصلابة الأرضية الحجرية وبلسعة في الهواء، وشم أثر رائحة في الهواء، أدرك على الفور أنها رائحة بشرية مريعة، كرائحة خوف مستديم. تحسس الحائط بحثا عن مفتاح الإضاءة، وعندما وجده لم يكن يتوقع أن تكون الكهرباء لا تزال موجودة. لكن الأنوار أضيئت، وحينئذ رآها.
अज्ञात पृष्ठ