وأيضا : فإنه لو جاز وقوع جميع العلوم الضرورية نظرية ؛ فكل ما هو جائز أن يكون ؛ لا يلزم من فرض وقوعه المحال. فلنفرض وقوع جميع العلوم الضرورية نظرية. ولو كان كذلك ؛ لاستحال وقوع شيء من العلوم النظرية ؛ لأن العلم النظرى لا بد وأن ينتهى إلى العلم الضرورى وإلا لتسلسل الأمر إلى غير النهاية ؛ وهو ممتنع.
وأيضا : فإنه إذا جاز وقوع جميع العلوم الضرورية نظرية ، لجاز وقوع العلوم الضرورية التى هى شرط كمال العقل في النظر نظرية. (1) وإذا كانت نظرية (1)؛ فتكون متوقفة على النظر ، والنظر متوقف على كمال العقل ، الذي لا يتم النظر إلا به. وكمال العقل الذي لا يتم النظر إلا به ، متوقف على تلك العلوم الضرورية ؛ فيكون دورا.
وأيضا : فإنه لو جاز وقوع جميع العلوم الضرورية نظرية ؛ (2) فالنظر على ما يأتى مضاد (2) وقوع المنظور فيه. ففى حالة النظر لا يكون عالما بها. وذلك يجر إلى تجويز أن يكون العاقل حالة النظر [غير] (3) عالم باستحالة اجتماع الضدين ، وأن لا واسطة بين النفى والإثبات ، وأن الواحد أقل من الاثنين ، وأن الجسم في آن واحد لا يكون في مكانين.
ولا يخفى ما في ذلك من الإحالة ، واتجاه قول منكرى البديهيات.
فإن قيل : هذا وإن دل على امتناع وقوع الضروريات نظرية ؛ فما المانع من وقوعها كسبية مقدورة للعبد ، وإن لم تفتقر إلى نظر واستدلال؟ كما قال الأستاذ أبو إسحاق في بعض مذاهبه.
فنقول : لو وقعت كسبية مقدورة للعبد ، لصح الإضراب عنها ؛ لكونها مقدورة ؛ فإنه لا معنى للمقدور إلا ما يصح فعله / وتركه وإلا كان (4) مضطرا إليه وملجأ ؛ فلا يكون مقدورا. ولا يخفى أن إضراب العاقل عن العلوم البديهية محال.
كيف وأن هذا مما لا يطرد في العقل عنده ؛ إذ هو من العلوم الضرورية. فلو جاز وقوعه مقدورا ؛ لصح الإضراب عنه. وإضراب العاقل عن عقله محال. ثم إن حصول العلم مقدورا ؛ يستدعى حصول العقل. وحصول العقل إذا كان من العلوم المقدورة ، فحصوله مقدورا ؛ يتوقف على حصوله في نفسه. وحصوله في نفسه ؛ يتوقف على كونه مقدورا ؛ وهو دور ممتنع.
पृष्ठ 88