بين العقيدة والقيادة
بين العقيدة والقيادة
प्रकाशक
دار القلم - دمشق
संस्करण संख्या
الأولى
प्रकाशन वर्ष
١٤١٩ هـ - ١٩٩٨ م
प्रकाशक स्थान
الدار الشامية - بيروت
शैलियों
بَيْنَ العَقِيدَة والقِيَادَة
تَأليف
اللواء الرّكن
محمود شيت خطابْ
دار القلم
دمشق
الدار الشامية
بيروت
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
1 / 2
الطّبعَة الأولى
١٤١٩ هـ - ١٩٩٨ م
1 / 4
الإهْدَاء
إلى القائد:
الذي يرفع راية الإسلام فوق المسجد الأقصى.
ويستعيد الأرض المقدسة للعرب، من إسرائيل.
محمود شيت خطابْ
1 / 5
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِن
مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا
عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)﴾
[الحج ٢٢: ٤٠ - ٤١]
1 / 6
هذا الكتاب
هذا الكتاب بين العقيدة والقيادة، يدل بلفظه على موضوعه، فالعنوان يدل على ما حواه الكتاب، وهو الصلة الوثيقة بين عقيدة القائد، وقيادته؛ وأن القيادة الرشيدة لا بدَّ أن تدفعها عقيدة مؤمنة وقلب لم يركس في المعاصي، ونفس لم تُدنَّس بالفسوق والانحراف، وإرادة حازمة قوية ضابطة غير خاضعة لهوى يهوِي بها؛ بل هي سيدة على النفس، حاكمة لها.
والكتاب دعوة للقادة، إلى أن يؤمنوا بالله تعالى، ورسله الأكرمين، وأن يكون لهم إيمان بالله، يعقدون العزم على الاستمساك بأمر الله تعالى ونهيه، وأن يكون للقائد مَثَلٌ ديني عالٍ يسمُو إليه، ويتبعه جنده في إيمانه، كما يتبعون قيادته، وإنهم في هذه الحال يتبعونه رَغَبًا لا رَهَبًا، وتكون طاعتهم له نابعة من إيمان، ليكون لجهادهم معنى سام عالٍ، ولا يكون قسرًا وكرهًا، لمجرَّد النظام العسكري الملزم.
وأن القلوب المؤمنة هي التي تبتغي النصر، وتصل إليه؛ والله يؤيد بنصره من يشاء.
فكل القادة الذين قادوا معارك الفتح كانوا من المؤمنين، كذلك الذين صدُّوا غارات المعتدين .. من هؤلاء القادة: أسد بن الفرات فاتح جزيرة صقلية، وصلاح الدين الأيوبي محرر القدس وقاهر الصليبيين، وقطز قاهر التتار، ومحمدٌ الفاتح فاتح القسطنطينية.
***
1 / 7
تقديم
للأستَاذ الجَليل العَلاّمَة محمّد أبو زَهرَة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون، وخلق الجانَّ من مارجٍ من نار، وطرد إبليس من رحمته، فكانت العداوة بينه وبين آدم وبنيه، قال سبحانه: ﴿اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾، فكانت العداوة المستمرة بين الخير والشر؛ وجعل على أهل الخير أن يدفعوا الشر، ولا يستسلموا؛ وجعل الأرض يرثها عباد الله الصالحون: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾.
والصلاة والسلام على محمد، الذي قاد جيش الخير، وحارب الشر، وعلّم بقيادته في الحرب الفاضلة التي تقطر فيها الدماء، ولا ينحل فيها رباط الفضيلة المقدس: ما يجب أن يكون عليه القائد؛ وحمل اللواء من بعده حواريوه الأمجاد، الذين حاربوا بالعقيدة أولًا وبالسيف ثانيًا؛ والخُلق الكريم هو الذي ساد وحكم في الحرب والسلم على سواء، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
1 / 9
١ - أما بعد، فقد أطلعني صديقي الكريم اللواء الركن محمود شيت خطاب على كتابه القيم "بين العقيدة والقيادة"، واستمعت إلى بعض قليل منه في مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية.
وإن الكتاب يكون صورة من كاتبه في تفكيره في المعقول، ومظهرًا لذوقه وإدراكه في المنقول؛ ولا ينفصل الكتاب الذي يكون ثمرة لجهود كاتبه، عن صاحبه؛ كما لا ينفصل السبب عن المسبب واللازم عن الملزوم لأنه صورة منه، وصورة طور من أطوار نفسه.
ولا يمكن أن يتبين الأثر إلا إذا تعرضنا بالبيان لمن أوجده.
ولذا كان لا بد أن نتعرض بكلمة للكاتب، قبل أن نتصدى للمكتوب، كما لا نعرف النتائج من غير معرفة مقدماتها.
٢ - وإن صديقي الكريم اللواء الركن محمود شيت خطاب، القائد العظيم المدرك، والوزير المخلص - وقليل ما هم - سعدْتُ بمعرفته من نحو أربع سنين أو أقل، والمدة في الحالين لا تزيد؛ ولكني بمجرد أن التقيت به أحسست بأني أعرفه منذ سنين تعد بالعشرات، لا بالآحاد، وكأن الأرواح قد تعارفت قبل أن تتلاقى الأشباح، وكأن الصورة قد رأيتها، وما لقيتها؛ لأن الأرواح تتألف وتسبق الائتلاف، وتتقارب وتسبق الاقتراب؛ ولذلك سرعان ما تصادقنا عندما التقيت به، وكأن صداقتنا ترجع بالماضي إلى آماد، لا إلى وقت قريب.
إذا اجتمعنا منفردَيْن أو في جمع، وتبادلنا الأفكار، أحسست بأني لا أنوي فكرة إلا سبقني إليها، وقد أُسارع إلى القول بما في خاطره، قبل أن يبديه؛ وكان ذلك لامتزاج نفوسنا، وصفاء ما في نفسه،
1 / 10
وابتعاده عن الالتواء في القول أو الفكر أو الاتجاه، فهو يسير بفكره وقوله وعمله في خط مستقيم، كاستقامة قامته؛ والخط المستقيم يعرف ابتداؤه، كما يُعرَف وسطه وانتهاؤه.
وكانت مجالس نتبادل فيها الحديث على نور من الله، وروحانية نفوس، واستقامة قلوب بيننا؛ فكنت أتذكر في هذه الصحبة قول النبي ﷺ: "إن لله ناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء لمكانهم من الله"، قيل: "ومن هم يا رسول الله"؟ قال: "قوم تحابُّوا بروح من الله على غير أرحام تربطهم، ولا أموال يتعاطونها؛ والله إنهم لنور، وإنهم لعلى نور؛ لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس"، ثم تلا قوله تعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
تذكرت هذا الأثر النبوي إذ اكتمل بالعمل جمعنا، لكني ولست ممن يتسامى إلى هذه المكانة، وأحسب أن صاحبي يتسامى إليها، أو إني أرجو ذلك له.
٣ - وقد جمع الله تعالى لصديقنا اللواء خطاب من الصفات ما تسمو به واحدة منها عن سفساف الأمور، وتتجه به إلى معاليها.
أولها: الإخلاص في القول والعمل؛ والإخلاص إذا كان في قلب أشرق، وقذف الله تعالى فيه بنور الحكمة، وكان تفكيره مستقيمًا، ولسانه قويمًا، وعمله حكيمًا، فلا يكون التواء، ولا عوج.
وثانيها: الإدراك الواسع، والعلم بما حوله، وتعرف الأمور من وجوهها، وإداركها من مصادرها؛ فقلمه نقي، وله فكر ألمعي.
1 / 11
قائد يعرف خصمه، ويدرك مراميه، حتى أنه ليتوقع الحرب أو الهجوم من عدوه في ميقاتها قبل أن يعلنها، وقبل أن يفكر فيها من سيكونون حطبها؛ لأنه يعلم الخصم، ومآربه، وحاله، ويتعرف من ذلك مآله .. علم بهجوم اليهود سنة ١٩٦٧ قبل أن يعلنوه، وقبل أن يقدره الذين كانوا في زعمهم يدبرون الأمور، ويلبسون لكلٍّ لبوسها.
وثالثها: إيمان صادق بالله، ورسوله النبي الأمين؛ ولذلك يتتبع سيرة السالفين، ويجعل منهم نورًا يهتدي به، ويعلم منه أعلام الهداية.
ويكمل هذه الصفات التي هي منه بمنزلة السجايا والملكات؛ همة عالية، وتجربة ماضية، وخبرة بالعلم والحروب، وخصوصًا ما كان بين العرب واليهود.
وهو عالم في العربية، وملم إلمامًا عظيمًا بشؤون الدين، وقارئ يتقصَّى الحقائق فيما يقرأ؛ يتعرف ما تسطره الأقلام، وما وراء ما تسطره؛ ينفر من تقليد الفرنجة ويُؤْثِر ما في القرآن والسنة وما كان عليه السلف الصالح؛ وهو ممن يُؤْثِرون الاتباع، ولا يرضَوْن عن الابتداع؛ سلفي في إيمانه وعمله، قوي في تفكيره، يهضم ما جدّ في العصر، بما في قلبه من إيمان راسخ، واتباع مستقيم .. وله مع كل هذا قلم بارع مصور، وكتابته من قبيل السهل الممتنع؛ وفقه الله تعالى وهداه.
٤ - هذه إشارة تعريف بالكاتب؛ فلننظر إلى الكتاب، ونتجه إليه بدراسة موجزة موضوعية، وليست شخصية؛ فننظر إلى المكتوب من غير أن نكون متأثرين بشخصية الكاتب إلا بمقدار أن الأثر من نوع
1 / 12
المؤثر، وأنه جاء نموذجًا من صورته وفكره.
والكتاب "بين العقيدة والقيادة" يدل بلفظه على موضوعه، فالعنوان يدل على ما حواه الكتاب؛ وهو الصلة الوثيقة بين عقيدة القائد، وقيادته، وأن القيادة الرشيدة لا بد أن تدفعها عقيدة مؤمنة وقلب لم يركس في المعاصي، ونفس لم تُدنَّس بالفسوق والانحراف، وإرادة حازمة قوية ضابطة غير خاضعة لهوى يهوي بها؛ بل هي سيدة على النفس، حاكمة لها. والكتاب دعوة إيجابية، ومرد حاسم على سلبية سادت في الجند العربي.
أما الإيجابية في الكتاب، فهو دعوة للقادة العرب، إلى أن يؤمنوا بالله تعالى، ورسله الأكرمين؛ وأن يكون لهم إيمان بالله، يعقدون العزم على الاستمساك بأمر الله تعالى ونهيه؛ وأن يكون للقائد مثل ديني عالٍ يسمو إليه، ويتبعه جنده في إيمانه كما يتبعون قيادته؛ وإنهم في هذه الحال يتبعونه رَغَبًا لا رَهَبًا، وتكون طاعتهم له من إيمان؛ ليكون لجهادهم معنى سام عالٍ، ولا يكون قسرًا وكرهًا، لمجرد النظام العسكري الملزم.
أما الرد على السلبية السائدة في الجيوش العربية، فمن المقرر عند بعض القادة، أنه لا صلة بين العقيدة والنصر؛ ولذلك لم يكونوا مستشعرين بشعار الإيمان، وربما كان منهم من يجاهد بالفسوق والعصيان، ولا يرعى مركزًا تقتضيه قيادته من أخلاق فاضلة، وقيم إنسانية عالية؛ بل يحسبون أن النصر للآلة الفاتكة، ومن يحرك الآلة، ولا يحسبون أن القلوب المؤمنة هي التي تبتغي النصر، وتصل إليه، والله يؤيد بنصره من يشاء.
1 / 13
ولقد رأينا رجال حرب في أيامنا يدخلون الحرب، ولا يذكرون الله في كلامهم، ولا طلب النصر من الله؛ والله يؤيد بنصره من يشاء، وهو العزيز الحكيم.
ولقد منُوا بالهزيمة النكراء، ولم يرعووا عن غيّهم، واستمروا على عصيانهم؛ والشعوب تكتوي بنارهم.
٥ - وإنه في سبيل الدعوة الإيجابية إلى الإيمان، والرد على الدعوة السلبية التي تبرر عصيان القادة وفسوقهم عن أمر ربهم - استعان المؤلف بآراء قواد البلاد الأوروبية المشهورين الذين نادَوْا بضرورة إيمان القائد بعقيدة، يتبعه على إيمانه بها جنده طوعًا واختيارًا، لا قسرًا وإجبارًا.
ولقد أكثر من ذكر كلام مونتكومري كبير قواد الحرب العالمية الثانية، وهو الذي كان على مقربة من أرض العرب؛ الذي انتصر في الصحراء الغربية بمصر.
فقد كان ذلك القائد العظيم مؤمنًا بدينه المسيحي أشد الإيمان، مستمسكًا بعقيدته أشد الاستمساك، ويرى أن سر النصر في هذه القيادة المؤمنة.
ولقد قيل، ويقال: كيف يدعي مونتكومري أو غيره أنه مؤمن، وهو يعتقد التثليث، وهذا اعتقاد باطل؛ لقد قيل ذلك، وهذا خطأ في الفهم.
إن الأمر في الاعتقاد ليس في كونه صحيحًا، إنما هو في قوة الإذعان بعد الجزم والتصديق اليقيني. فمن يعتقد بدين اعتقادًا جازمًا
1 / 14
مستيقنًا مذعنًا لاعتقاده، فهو حامل عقيدة، وإن كانت مخطئة؛ نعم إنه يجب عليه أن يطلب الحق ويهتدي بهديه، وإنه مؤاخذ فيما إذا قصر في طلب الحق، أو وصل إليه ولم يؤمن به جهلًا أو عصبية، أو قال: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾.
ولكنه ما دام معتقدًا عقيدة تدفعه وتبعده عن الشهوات، فعنده عقيدة، وهو خير ممن لا اعتقاد له، ولقد قرر الفقهاء أن من له دين خير ممن لا دين له.
ولقد التقى الإمام محمد عبده في أثناء رحلاته بعابدة زاهدة، فاسترعاها سمت الإمام ﵁ ونور إيمانه، فقالت: "ما كنت أظن في غير الكاثوليكية تدينًا".
فهذه وأشباهها لها عقيدة، وإن كانت غير صحيحة.
وأبو بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - قال لقائده الذي أرسله إلى الشام، قال له: "إنك ستجد قومًا زعموا أنهم حبسوا أنفسهم في الصوامع، فدعهم وما زعموا".
وإن هذا يدل على أن الاعتقاد له أثر في توجيه النفس سواء أكان صحيحًا سليمًا، كالعقيدة الإسلامية الطاهرة المستقيمة، أم كانت غيرها؛ فإنها باعثة على العمل مانعة للشهوات، إن كان فيها زهاوة؛ فلا ضير على الكاتب أن يستشهد على قوة العقيدة وأثرها في القيادة بكلام القواد الغربيين وعلى رأسهم مونتكومري، لأنه انتصر في أقرب معركة إلينا، ولأنه لا يزال حيًا يُرجَع إليه فيما يقول.
وقد علل الكاتب الكبير إيثاره الابتداء بالقواد الغربيين،
1 / 15
وخصوصًا مونتكومري؛ بأن كثيرين من الشرقيين أو البارزين منهم يفصلون العقيدة عن القيادة، والأخلاق الفاضلة عن الجندية المجاهدة، ويحسبون أنهما لا يتلازمان؛ وأن القائد المنتصر قد يكون غير متدين، وسكيرًا، يعربد، ولا يؤمن، ولكنه يجيد فنون الحرب، وإلى سير قواد الغرب يرددون ذلك. وإذا كان بعض القواد انتصر في بعض المواقع مع أنه منحرف في دينه وخلقه، فإن ذلك لا يعد نظامًا مطردًا؛ بل هو نتيجة خطأ العدو، وليس ثمرة قيادة حكيم.
وضرب الكاتب الكبير بسيف الفضيلة، تلك الترهات الباطلة.
وفوق ذلك فإن ما ذكره من سيرة القواد العظام، وخصوصًا مونتكومري وديجول، من أخبار، وما نقله من أقوال لهما ولغيرهما:
يدل على أن الأخلاق الفاضلة للقائد والجند -بل للشعب نفسه- هي أساس النجاح في الحروب؛ فلا نجاح لقائد لا أخلاق له.
٦ - وإن الاستمساك بالفضائل في القائد قد وضحه مونتكومري في عبارات نيّرة واضحة يدركها المؤمنون مثال كاتبنا الكبير اللواء الركن خطاب.
وخلاصة ما يدعو إليه مونتكومري كما يتبيّن من كتابه:
أولًا- أن العقيدة في القائد المؤمن بعقيدته هي سر نجاحه، وهي التي تدفعه إلى الجهاد؛ لأن المحارب يتقدم بنفسه لحماية مجتمعه، فلا بد أن تكون له قوة تحمله على تقديم نفسه في سبيل مثل عالية تجعله يقدم نفسه راضيًا مطمئنًا.
وثانيًا- بأن العقيدة تدفع إلى العدل، ولا يدفع الجندي إلى
1 / 16
الرضا إلا أن يحس بأنه يعمل في ظل عدالة لا تحابي ولا تماري، ولا تضنّ على أن يُعطى كل ذي حق حقه.
ثالثًا- أن العقيدة وإخلاص المؤمن لها، وإذعانه لما تتقاضاه منه؛ تجعله حريصًا على جنده، يحنو عليهم ويقرب منهم؛ والقائد يقود نفوسًا، ولا يرصّ بنيانًا؛ ومن يقود النفوس عليه أن يدنو منها ويحنو عليها.
ورابعًا- أن العقيدة تجعل القائد كالكاهن لا يفكر في نفسه ولا في ماله، ولا في أي مأرب من أمور الدنيا، غير أن ينتصر في ميدان يحسب أنه فيه يحمي الفضيلة؛ وبذلك يعلو في نفسه ويسمو.
ولقد نقل اللواء الركن محمود شيت خطاب أن مونتكومري قال في وصف نفس القائد المؤمن: "يجب أن يكون خادمًا للحقيقة، وأن تكون هذه الحقيقة لغرض عام يقصد به النفع العام، ويروض نفسه على ذلك، حتى يكون له ملكة نفسية، من شأنها أن توحي إلى الآخرين بأن يتبعوه".
ذلك أن النواحي المعنوية أو النفسية، تسري إلى النفوس كما يسري الماء الطاهر من المكان العالي إلى ما دونه، فيتقدم الجند طائعين واثقين مطمئنين، لأن وجدانهم يتبع وجدانه، فهم خاضعون لنفسه ونزوعه إلى الخير والفضيلة الإنسانية قبل أن يخضعوا لما يأمر وينهى.
وإن القائد يجب أن يكون ضابطًا لنفسه صبورًا، وإن الجنود من ورائه يضبطون نفوسهم بضابط الصبر، وإن المحاربة تكون بالمصابرة، كما تكون بالمقاتلة؛ بل إن أساس القوة في المقاتلة هو المصابرة. هكذا
1 / 17
يقرر مونتكومري .. وقد نادى من قبله القرآن الكريم بالصبر، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
وإن تربية النفس مع الصبر، وتربية القائد أو الجندي مع ضبطها أمران متلازمان؛ وضبط النفس ألا تفزع ولا تطمع، وأن تقمع شهواتها وملاذَّها، وألاّ تيأس في هزيمة، ولا تأشر وتبطر وتزدهي في نصر؛ وأن تتلقى السراء بثباتِ جأش، والضراء بعزيمة تعلو، ولا تهبط؛ ولقد قال تعالى في وصف الإنسان الذي لا ينال سجية ضبط النفس: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾.
وإن الصبر وضبط النفس لا يظهران إلا عند الصدمات، كما قال ﷺ: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى".
٧ - ومونتكومري يرى أن العقيدة يجب أن تكون العنصر الأساسي في تربية الشعب، وخصوصًا صغاره؛ ويرى أن تربية العقيدة يجب أن تبدأ من قبل السادسة من عمره؛ وأنه يجب أن يُربَّى على الجلاد، وعلى الضبط، وألا تمتاع نفسه بالملاهي انمياعًا.
ويستفاد من كلامه أن اللهو في ذاته باطل، إلا أن يكون في ظل الإيمان، والاعتقاد؛ وأن تكون للنفس إرادة تسيطر على اللهو والملاهي.
ويذكر أنه يجب أن تُربَّى البنات على الاحتشام والتمسك بالاعتقاد، والإيمان؛ ويقول في ذلك عن بنات جيله مادحًا لهن: "إن
1 / 18
البنات لم يكنَّ ليسمح لهن بالخروج من البيت وحدهن والذهاب مع الأولاد إلى المراقص وغيرها".
وهكذا تجد كثيرًا من المناهج التي يرسمها للجيش وللناس؛ ليكون منهم القواد الأقوياء في حربهم وأخلاقهم وعقائدهم التي ينالون بها النصر للفضيلة، ولقومهم ولعقيدتهم معًا.
وإنا ونحن نقرأ ما كتبه اللواء الركن محمود شيت خطاب عن مونتكومري نحس بأننا نقرأ في كتاب "قوت القلوب" لأبي طالب المكي، أو "إحياء علوم الدين" للغزالي، أو كتاب "موعظة المؤمنين"، أو كتاب "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق" لابن مسكويه، ولكن الحق في الأخلاق والفضيلة واحد يظهر بعلم المؤمن بدينه المذعن لعقيدته.
وإن الكاتب المؤمن اللواء الركن محمود شيت خطاب ينقل ذلك لكي يُفقِّه قومنا ما يجب أن يكون، ما يجب أن يتبع لقوم يريدون أن يكونوا مجاهدين؛ والعدو جاثم في أرضهم، وبلادهم محتلة، ويسوم العدو أهل البلاد الخسف والهوان؛ ومنا من ينظر ويسترجع، ومنا من لا يعتبر، ومنا من يعادي، ومنا من يقاتل المجاهدين، ومنا من يقتل المؤمنين فرادى وجماعات، ومنا من يلهو ويلعب؛ ويجمع أهل اللهو من شرق البلاد وغربها، ليستمتع بلهوهم، ويشتهر بين الناس ما يلهو به ويلعب، والطامة أنه بعد أن نكس العرب والإسلام نجد الإذاعات المرئية وغير المرئية لا عمل لها إلا قصص الحب الماجن، وإلا الأغاني المثيرة للغريزة الجنسية، والتي تكون بنغمات نسائية لا تكون إلا في المخادع بين الرجال والنساء.
1 / 19
والإذاعات المرئية فيها الأجسام العارية، والرقصات الكاشفة المغرية، فإذا نبَّهنا إلى ما في ذلك من دعوات صارخة ضد الفضيلة، قال المهيمنون الذين يقودون هذا المجون ويشجعونه: إنه يشتمنا. إذا كان ذلك التنبيه الرقيق أو العنيف شتمًا، فنحن نرضى بذلك؛ وخير لنا أن نقوم بالكلام -اللائم أيًا كان وصفه- من أن نرى الشر ولا نستنكره، ونستمع إلى الدعوات لظهور البنات والنساء عارية أرجلهن إلى أنصاف أفخاذهن، وبين ما يقرره مونتكومري .. نجد إلى أي حد انحدرنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكل ذلك، وأرضنا محتلة، وعدونا يساورنا بالقوة؛ ونحن لاهون.
إن كتابة مونتكومري، وغيره من القواد العظام، وطريق نصرهم، وما يجب أن تتحلى به الشعوب التي تعرضت للغزو: درس للذين يقودون البلاد ليعرفوا ما يجب التخلي عنه، وما يجب التحلي به؛ إن النصر لا يكون بالرقص والغناء الذي يغري بالأهواء والشهوات، ويثير الغرائز، ويخدر النفس، فلا تتجه إلى الواجب.
إن المقاييس قد اضطربت، وميزان الرجال هو الذي يدل على مقدار إدراك الآفة ومقدار حدها، وتحرير إرادتها.
إن الرجل من أهل المجون يموت، فتقوم الصحف والمحافل وتُعقَد الندوات في ذكر مناقبه؛ ويموت العالم الجليل الذي يدين له الجيل، فلا يظفر من الصحافة التي تتبع الحكومة إلا بخبر عارض، أو لمحة خاطفة، وهو يسجل للأمة مجدها؛ فمجد الأمم ليس بالغناء
1 / 20
والرقص والتهريج، إنما مجد الأمم بعلمائها، وهم قمة الإنسانية، وهداتها.
ولكن عمّ سيل المجون حتى طمّ؛ ولذلك تخلفنا، وانهوينا إلى منهوى سحيق.
من أجل ذلك كتب اللواء الركن محمود شيت خطاب، ونقل ما نقل عن قادة الحرب وقادة الفكر من أوروبا وغيرها؛ وإن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾.
٨ - وإن اللواء الركن محمود شيت خطاب لا يكتفي بما ذكر من قادة الغرب، وإن كان لذلك مكانه، وفيه عبرته لمن يعتبر.
بل اتجه من بعد إلى القادة من المسلمين، وذكر مقدار العقيدة في نصرهم.
وقد وجد أمامه دعوة النبي ﷺ إلى الجهاد الذي لا يقصد به إلا وجه الله، فقد ذكر ﷺ في محاورة بينه وبين أصحابه يفصِّل حال المحاربين، ومقامهم في الجهاد عند الله؛ وسئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياءً؛ أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله ﷺ: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله".
يروى أن رجلًا أراد الجهاد في سبيل الله تعالى، وهو يبتغي عرضًا من أعراض الدنيا، فقال ﵇: "لا أجر له"، فأعادها عليه ثلاثًا؛ كل ذلك، وهو يقول: "لا أجر له".
1 / 21
إنها ليست العقيدة في أولى درجاتها، إنما العقيدة في أعلى سماتها، إنها التجرد لله ﷾، وإنها أعلى من الحقيقة، التي يدعو إليها مونتكومري؛ وإن ذلك مؤداه أن يخرج المجاهد قائدًا أو مقودًا لا يجعل لشخصه مكانًا في مقصده، بل تفنى نفسه في الجهاد.
وإذا كان بعض القواد يقول: إن القائد يجب أن يكون في نيته كالكاهن لا يعرف إلا العبادة لله تعالى في جهاده؛ فإن النبي ﷺ قد قال ما هو أعلى من هذا، فقد عدّ ﷺ الجهاد أفضل العبادات.
وعدّ ﵇ المستشهد في سبيل الله تعالى قد فاز بالجنة، وكان المجاهدون من أصحابه إذا أوشكوا على الشهادة نادى أحدهم: فزت ورب الكعبة.
فالعقيدة لم تكن صفة القائد وحده، بل صفة كل جندي يحارب في سبيل الله، ولقد قال ﷺ: "لكل أمة رهبانية، ورهبانية أمتي في الجهاد".
وإن المجاهد المخلص المؤمن المتقد الذهن، يتفق مع الراهب في ناحية، ويختلف عنه في ناحيتين:
أما ناحية الاتفاق فهي أن كل واحد منهما يتجه إلى عبادة مخلصة لا يبتغي عرضًا من أعراض الدنيا، ولا مأربًا شخصيًا فيها، ولكن رضا الله على اتجاه مستقيم في جانب المجاهد، وعلى انحراف في جانب الراهب، لأن الرهبانية ابتدعها الذين أخذوها جزءًا من دينهم، كما قال تعالى في أتباع المسيح ﵇: ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾.
1 / 22