انتخبوا نائبكم الحر إبراهيم فرحات.
على مبادئ سعد الأصلية.
زهق عهد الظلم والعري.
وجاء عهد العدل والكساء.
وأرادوا أن يلصقوا إعلانا بدكان عم كامل، ولكن الرجل الذي ترك غياب عباس الحلو في نفسه أسوأ الأثر تصدى لهم ساخطا وهو يقول: ليس هنا يا أولاد الحلال، هذا شؤم يقطع الرزق.
فقال له أحدهم ضاحكا: بل تجلب الرزق .. وإذا رآها حضرة المرشح اليوم ابتاع بسبوستك بالجملة، وأعطاك الثمن مضاعفا وعليه قبلة.
وانتهى العمل عند منتصف النهار، وعاود المكان هدوءه المعهود. واستمر هذا حتى العصر حين جاء السيد إبراهيم فرحات في هالة من حاشيته ليعاين الأمور بنفسه، وكان الرجل لا يقبض يده عن الإنفاق، إلا أنه كان كذلك تاجرا لا يفوته الاطلاع على دقائق ميزانيته حتى لا يجوز عليه ما لا ينبغي أن يجوز. وقد تقدم القوم بجسمه البدين القصير، يرفل في جبته وقفطانه، ويقلب فيما حوله وجها أسمر كرويا ذا عينين ساذجتين. كانت مشيته تنم عن الزهو والثقة، وعيناه تنطقان بالطيبة والسذاجة، ومظهره عامة يشي بأن بطنه أهم كثيرا من رأسه. وقد أحدث ظهوره اهتماما كبيرا في الزقاق وما يحيط به؛ لا لأنهم اعتبروه عروس الليلة، وأملوا من وراء «زفته» خيرا كثيرا، خصوصا وأنهم لم يفيقوا بعد من الصدمة التي دهمتهم في الانتخابات السابقة بفوز مرشح الدائرة بالتزكية! ثم جاءت على أثره جماعات من الغلمان تسير وراء أفندي مرددة هتافات عالية، كان يصيح بصوت كالرعد: «من نائبنا؟» .. فيجيبونه بصوت واحد: «إبراهيم فرحات»، فيهتف ثانية: «من ابن الدائرة؟» فيهتفون: «إبراهيم فرحات»، وهكذا، وهكذا، حتى امتلأ بهم الطريق، وتسرب منهم كثيرون إلى السرادق. وجعل المرشح يرد الهتافات برفع يديه إلى رأسه، ثم اتجه نحو الزقاق تتبعه بطانته وجلها من رافعي الأثقال بنادي الدراسة الرياضي. واقترب من الحلاق العجوز الذي حل محل الحلو ومد له يده وهو يقول: «السلام عليك يا أخا العرب.» فانحنى الرجل على يده في استحياء وترحيب، وتحول عنه إلى عم كامل قائلا: «لا تتجشم مشقة النهوض، حلفتك بالحسين إلا ما لزمت مكانك .. كيف حالك؟ .. الله أكبر .. الله أكبر، هذه بسبوسة فريدة، وسيعرف الناس جميعا قدرها هذه الليلة» .. وتقدم مسلما على كل من لاقاه، حتى انتهى إلى قهوة كرشة، فحيا المعلم، وجلس ودعا رفاقه للجلوس، واستبق إلى القهوة كثيرون حتى جعدة الفران وزيطة صانع العاهات. وردد المرشح نظره بين الحاضرين في سرور، ثم قال مخاطبا المعلم كرشة: قدم الشاي للجميع.
وابتسم تحية لكلمات الشكر التي تناثرت عليه من كل حدب وصوب، ثم التفت صوب المعلم قائلا: أرجو أن تقوم القهوة بتقديم ما يحتاج السرادق من الطلبات. - فقال المعلم كرشة بشيء من الفتور: نحن في الخدمة يا سي السيد.
ولم يغب عن المرشح فتوره، فقال برقة: نحن جميعا أبناء حي واحد، وكلنا إخوان.
والحق أن السيد فرحات جاء القهوة خصوصا لاسترضاء المعلم كرشة؛ ذلك أنه كان قد استدعاه قبل ذلك بأيام ليستميله إلى جانبه فيضمن صوته وأصوات من يلوذ به من المعلمين وعمالهم، وقدم له خمسة عشر جنيها مقدم أتعاب، ولكن المعلم كرشة أبى أن يمسها محتجا بأنه ليس دون الفوال - صاحب قهوة الدراسة والذي ذاع أنه أخذ عشرين جنيها - منزلة، وما زال به حتى حمله على قبول المبلغ واعدا إياه بالمزيد. ثم افترقا والسيد مشفق من انقلاب المعلم عليه؛ والواقع أن المعلم كرشة لم يخل من غضب على «محدث السياسة» هذا على حد قوله، وأضمر له شر النوايا إذا هو لم يبادر إلى إصلاح خطئه. وكان المعلم كرشة يتيقظ - على غلبة الذهول عليه - في المواسم السياسية. وقد اكتسب في شبابه شهرة في عالم السياسة تضارع ما اشتهر به بعد ذلك في الأمور الأخرى! فاشترك في ثورة سنة 1919 اشتراكا فعليا عنيفا، وقد نسب إليه الحريق الكبير الذي التهم الشركة التجارية اليهودية للسجائر بميدان الحسين، وكان من أبطال المعارك العنيفة التي دارت بين الثوار من ناحية وبين الأرمن واليهود من ناحية أخرى. ولما أن خمدت الثورة الدموية وجد فيما جد من معارك انتخابية ميدانا جديدا على ضيقه لنشاطه وحماسته، فبذل في انتخابات سنة 1924 جهدا مشكورا، وصمد ببطولة لمغريات انتخابات سنة 1925 - ولو أنه قيل وقتذاك إنه قبل رشوة مرشح الحكومة، ولكنه أعطى صوته لمرشح الوفد - وأراد أن يلعب الدور نفسه في انتخابات صدقي - فيأخذ النقود ويقاطع الانتخابات - ولكن عيون الحكومة راقبته يوم المعركة، وحملته مع غيره في لوري إلى مركز الانتخاب، فخرج على إرادة الوفد مرغما لأول مرة. وكان عام 1936 آخر عهده بالسياسة، فطلقها بعد ذلك وتزوج التجارة، ورصد الانتخابات فيما تلا ذلك من عهود كما يرصد الأسواق النافقة، وانقلب نصيرا لمن «يدفع أكثر»، وجعل يعتذر عن مروقه بما طرأ على الحياة السياسية من فساد، قائلا: إنه إذا كان المال غاية المتنابذين في ميدان الحكم، فلا ضير أن يكون كذلك غاية الناخبين المساكين! وفضلا عن هذا وذاك فقد لحقه الفساد هو نفسه، وغلبه الذهول، وركبته الشهوات، ولم يبق في روحه من الثورات القديمة إلا ذكرى غامضة ربما كر إليها الخيال فأشاد بها متباهيا في بعض ساعات الصفاء حول المجمرة، ولكنه نبذ في قلبه جميع قيم الحياة الشريفة، ولم يعد يعبأ شيئا من بعد ذلك إلا «الكيف» و«الهوى»، وما عدا ذلك «اردم» على حد قوله. لم يعد يكره أحدا، لا اليهود ولا الأرمن ولا الإنجليز أنفسهم. ولم يعد يحب أحدا كذلك، ولذلك كان من العجيب حقا أن تدب فيه حماسة مفاجئة في هذه الحرب فيتعصب للألمان، وأن يتساءل - في هذه الأيام خاصة - عن موقف هتلر، أحقيقة قد أصبح مهددا؟ وألا يجمل بالروس أن يسارعوا شاكرين لقبول ما يعرض عليهم من صلح منفرد؟! ولكن إعجابه بهتلر كان ينعقد حول ما يذيع عن بأسه وبطشه ليس إلا، فكان يعده شيخ فتوات الدنيا، ويتمنى له النصر كما تمناه طويلا لعنترة وأبي زيد. بيد أنه ظل محافظا على خطره في ميدان الانتخابات؛ لأنه كان زعيم المعلمين الذين يتحلقون مجمرته كل ليلة ومن يتبعهم من فعلة وصبيان وبطانات، ولذلك حرص السيد إبراهيم فرحات على استرضائه، ونزل عن ساعة طويلة من وقته الثمين يقطعها في قهوته متوددا مستعطفا.
Shafi da ba'a sani ba