فأبدى الكثيرون عن اغتباطهم، متصنعين الجد، ليجوز الكلام على عم كامل المشهور بسرعة تصديقه، وأثنوا على مروءة الحلو وكرمه، وقالوا: إن هذا صنيع خليق به نحو الرجل الذي يحبه ويساكنه شقة واحدة، ويشاطره العيش كأنه من لحمه ودمه. حتى السيد رضوان الحسيني ابتسم راضيا، مما جعل عم كامل ينظر إلى الشاب في سذاجة ودهشة ويقول متسائلا: أحق ما تقول يا عباس؟!
فقال الدكتور بوشي: لا يداخلك الشك يا عم كامل، لقد علمت بما يقول صاحبك، ورأيت الكفن بعيني رأسي، وهو كفن قيم وددت لو يكون لي مثله.
وتحرك الشيخ درويش للمرة الثالثة فقال: حظ سعيد، الكفن سترة الآخرة يا كامل، تمتع بكفنك قبل أن يتمتع بك. ستكون طعاما مريئا للدود، فيرعى في لحمك الهش مثل البسبوسة؛ فيسمن وتصير الدودة كالضفدعة، ومعناها بالإنجليزي
Frog
وتهجيتها:
F r o g .
وصدق عم كامل، ومضى يسأل الحلو عن نوع الكفن ولونه وعدد أدراجه، ثم دعا له طويلا، وانبسط وحمد الله. وارتفع عند ذاك صوت فتي آتيا من الطريق يقول: مساء الخير.
واتجه صاحبه إلى بيت السيد رضوان الحسيني. كان القادم حسين كرشة ابن المعلم كرشة صاحب القهوة. فتى في العشرين في مثل لون أبيه الضارب إلى السواد؛ ولكنه ممشوق القوام، تدل ملامحه الدقيقة على الحذق والفتوة والنشاط، كان يرتدي قميصا من الصوف الأزرق وبنطلونا خاكيا وقبعة وحذاء ثقيلا، تلوح على سيماه مظاهر نعمة المشتغلين بالجيش البريطاني. وكان ذاك ميعاد عودته من «الأرنس» كما يسمونه، فرمقه الكثيرون بعين الإعجاب والحسد، ودعاه صديقه الحلو إلى القهوة؛ ولكنه شكره ومضى إلى حال سبيله. •••
ساد الظلام الزقاق إلا ما ينبعث من مصابيح القهوة فيرسم على رقعة من الأرض مربعا من نور تتكسر بعض أضلاعه على جدار الوكالة. ومضت الأنوار الباهتة وراء خصاص نوافذ البيتين تنطفئ واحدا في إثر واحد. وأكب سمار القهوة على الدومينو والكومي؛ إلا الشيخ درويش فقد أغرق في ذهوله، وعم كامل مال رأسه على ثدييه وراح في سبات. وظل سنقر على نشاطه، يحمل الطلبات ويرمي بالماركات في الصندوق، والمعلم «كرشة» يتابعه بعينين ثقيلتين، وهو يستشعر في خمول ذوبان الفص في جوفه ويستنيم إلى سلطنة لذيذة. وتقدمت جحافل الليل، فغادر السيد رضوان الحسيني القهوة إلى بيته. وتبعه بعد قليل الدكتور بوشي إلى شقته في الدور الأول من البيت الثاني. ثم لحق بهما الحلو وعم كامل. وأخذت المقاعد تخلو تباعا، حتى انتصف الليل فلم يبق بالقهوة إلا ثلاثة: المعلم والصبي والشيخ درويش. وجاء نفر من المعلمين أقران المعلم «كرشة»، وصعدوا جميعا إلى حجرة خشبية على سطح بيت السيد رضوان، وتحلقوا المجمرة، وبدءوا سهرة جديدة لا تنتهي حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وخاطب سنقر الشيخ درويش قائلا برقة: انتصف الليل يا شيخ درويش.
فانتبه الشيخ إلى صوته، وخلع نظارته بهدوء وجلاها بطرف جلبابه، ثم لبسها من جديد وسوى رباط رقبته ونهض قائما، واضعا قدميه في القبقاب، وغادر القهوة دون أن ينبس بكلمة، يخرق السكون بضربات قبقابه على بلاط الزقاق. كان السكون شاملا، والظلمة ثقيلة، والطرق والدروب خالية مقفرة، فترك لقدميه مقوده، حيث لا دار له ولا غاية، وغاب في الظلمة. •••
Shafi da ba'a sani ba