فقال الرجل بسرور: هذا من فضل ربي.
فهز زيطة رأسه وقال ببطء: العملية دقيقة وخطيرة، ودعني أسألك عن أسوأ الاحتمالات، هبك فقدت بصرك حقيقة عن خطأ أو إهمال، فماذا تفعل؟
فتردد الرجل لحظة، ثم قال بغير مبالاة: نعمة من الله! وهل أفدت من بصري شيئا حتى آسف على ضياعه؟
فقال زيطة بارتياح: بهذا القلب تستطيع أن تواجه الدنيا حقا. - بإذن الله يا سيدي، ستكون روحي ملك يدك. سأنزل لك عن نصف ما يجود به المحسنون.
فحدجه زيطة بنظرة قاسية وقال بحدة: هذا كلام لا يجوز علي، حسبي مليمان غير أجر العملية، وإني أعرف كيف أستخلص حقي إذا سولت لك نفسك المماطلة.
وهنا قال البوشي محذرا: لم تذكر نصيبك من الخبز.
فاستدرك زيطة قائلا: طبعا. طبعا .. والآن فلنشرع في العمل، العملية شاقة، ولسوف نمتحن قوة احتمالك، فاكتم الألم ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
وتصور ما سوف يكابده هذا الجسم الهزيل من هرس يديه القاسيتين، فارتسمت على شفتيه الباهتتين ابتسامة شيطانية.
8
كانت الوكالة مثار ضجيج لا ينقطع في الزقاق طول النهار؛ عمال كثيرون لا يكفون عن العمل فيما عدا فترة الغداء القصيرة، وسيل من البضائع الواردة والصادرة يطرد في تتابع متواصل، وعدد من سيارات العمل الضخمة يجعجع أزيزها فيطبق على الصنادقية وما يتاخمها من الغورية والأزهر، وتيار زاخر من الزبائن والعملاء. هي وكالة عطارة بالجملة والتجزئة، وليس من شك في أن انقطاع الوارد من الهند بسبب الحرب قد أحدث في سوقها أثرا ملحوظا، ولكن الوكالة على رغم ذلك حافظت على سمعتها ومركزها، كما ضاعفت ظروف الحرب من نشاطها وأرباحها. وفضلا عن هذا وذاك فقد أغرت ظروف الحرب السيد سليم بالاتجار بمواد لم يكن يلقي إليها بالا؛ كالشاي، فغامر في السوق السوداء، وربح أرباحا طائلة. وكان السيد سليم علوان يجلس إلى مكتبه الضخم في نهاية الردهة الموصلة إلى فناء الوكالة الداخلي الذي تحدق به المخازن، وهو مركز وسط يستطيع أن يشرف منه على داخل الوكالة وخارجها، وييسر له مراقبة العمال والحمالين والزبائن جميعا. لذلك كله فضل هذا المركز على الانفراد في حجرة كما يفعل أقرانه من كبار التجار، ولأن التاجر الحق - على حد تعبيره - «ينبغي أن يكون مفتوح العينين دائما». وكان الرجل في الواقع من النماذج العملية الموفقة، خبيرا في مهنته، قادرا على النهوض بأعبائها. ولم يكن من حديثي النعمة الذين أنجبتهم الحرب؛ لأنه على حد تعبيره أيضا «تاجر ابن تاجر»، بيد أنه لم يكن في البدء معدودا من الأغنياء، ثم خاضت تجارته غمار الحرب الأولى وخرجت ظافرة، وأدركتها هذه الحرب فأثقلت موازينها حتى أتخمتها بالثراء. على أن الرجل لم يخل من الهموم، وبحسبه أن يناضل في الميدان وحده بلا معين ولا نصير. أجل كان ما يتمتع به من صحة جيدة وحيوية فائضة خليقا بأن يهون عليه همومه، ولكن لم يكن بد من التفكير في الغد، القريب أو البعيد، إذا انصرف العمر أو كاد، وافتقدت الوكالة من يديرها. فمن المؤسف حقا أن أحدا من أبنائه الثلاثة لم يقع له في خاطر أن يتقدم لمعاونة أبيه في عمله، وكانوا جميعا سواء في الإعراض عن التجارة، وضاعت محاولاته في ثنيهم عن إعراضهم كلها سدى، فلم يجد مناصا - على بلوغه الخمسين - من النهوض بالأمر كله. وليس من شك في أنه كان المسئول عن هذا الختام المرهق، فقد كان على رغم عقليته التجارية جوادا كريما، أو كان كذلك على الأقل في بيته وبين أهله، فكان بيته كالقصور جمال بناء، ونفاسة أثاث، وكثرة خدم وحشم. وفضلا عن ذلك فقد انتقل عقب زواجه من البيت القديم بالجمالية إلى قصر منيف بالحلمية، فترعرع الأبناء في وسط جديد منقطع الأسباب ببيئة التجار وأوساطهم؛ وسط يضمر بلا ريب نوعا من الاحتقار للمهن الحرة جميعا، فتعلقوا بمثل عليا جديدة، بحكم معيشتهم ووسطهم وعلى غير علم من والدهم المشغول بعمله وحياته. وحين جد الجد تمردوا على نصحه وأبوا حتى الالتحاق بمدرسة التجارة أن تكون فخا لهم، وشقوا سبيلهم إلى الحقوق والطب؛ فهم قاض ومحام بأقلام القضايا وطبيب بقصر العيني. ومع ذلك كانت الحياة سعيدة، وقد بدت آثارها الطيبة في جسمه البدين المتين، ووجهه الممتلئ المورد، وحيويته الشابة المتوثبة سعادة منشؤها أن كل شيء في موضعه المأمول، تجارة رابحة، صحة جيدة، أسرة سعيدة، أبناء موفقون قد عرف كل منهم وجهته واطمأن إليها. وكان له غير هؤلاء الأبناء بنات أربع تزوجن جميعا وبارك الله في زيجاتهن. فبدا كل شيء باسما منبسطا لولا ما ينتابه بين الحين والحين من التفكير في مصير الوكالة والتجارة. وبكرور الأيام تنبه الأبناء إلى متاعب الأب، ولكنهم قدروها من ناحية أخرى، فساورهم خوف أن يفلت الزمام يوما من يد والدهم، أو أن يتركها لهم بغتة فلا يدرون ماذا يصنعون. وكان أن اقترح عليه أحدهم - محمد سليم علوان القاضي - أن يصفي تجارته ليتفرغ لحقه المشروع من الراحة بعد ذاك النضال الطويل. بيد أن السيد لم يغب عنه حقيقة مخاوفه، واستاء استياء لم يحاول إخفاءه، فقال له: «أتريد أن ترثني حيا؟!» ودهمه قوله هذا وهاله؛ لأنه وإخوته يحبون أباهم حبا صادقا، فلم يعد أحد منهم إلى طرق هذا الموضوع الخطير. ولكن لم ينته الأمر عند هذا الحد فراحوا يقولون - واثقين من عدم استفزاز غضبه هذه المرة: إن شراء أرض أو تشييد عمارات أفضل بلا ريب من كنز الأموال في المصارف. وفطن إلى بواعث هذا القول الحقيقية بعقله الذي يحسن إدراك مسائل المال وما يتفرع عنها، فهو يعلم حق العلم أن التجارة التي تدر المال بلا حساب قد تبتلعه أيضا في ساعة نحس واحدة، وأن التاجر الذي يحتاط للمستقبل بشراء عقار مثلا، حقيق إذا وقعت هذه الساعة - خاصة إذا سجل ما ابتاع من عقار باسم أبنائه مثلا أو زوجه - أن يخرج من شدته ببعض المال، وعسى أن يكون مالا كثيرا، لا صفر اليدين. وهو إلى ذلك يعرف حق المعرفة سير تجار كبار ممن ربحوا أموالا طائلة، وانتهوا إلى الإفلاس والفقر المدقع، أو إلى شر من ذلك كالانتحار أو الموت كمدا. أجل إنه يعلم ذلك كله، ويعلم أن أبناءه على حق فيما يريدون، ولعل التفكير في هذا الذي يريدون لم يكن جديدا عليه، ولكن هل تسمح ظروف الحرب بالشروع في مثل هذا العلم؟! كلا، هذا بين بلا ريب. وإذا فليؤجل إلى حين، وليطو في نفسه حتى يتيسر تحقيقه. ولم يكد يحسب أنه فرغ من هذا الهم حتى اقترح عليه ابنه القاضي أيضا أن يسعى للحصول على رتبة البكوية. قال له: كيف لا تكون بيكا والبلد ملأى ببكوات وباشوات دونك مالا وجاها ومقاما؟!
Shafi da ba'a sani ba