وإذ يزفر طالبا للحوادث تفسيرا يقال له: «هذه هي الحياة!» «ما هذا إلا الحياة.» «لا تكون الحياة إلا كذا.» نعم، يا أبا الأهوال الساهي، إزاء الهبة والحرمان، والوفاء والغدر، والبياض والسواد، والفخار والمذلة، والغلبة والاندحار، إزاء كل مسرة وكل توجع، التفسير واحد لا يتغير! إننا نفسر الحياة بالحياة، ونداوي داء الحياة بمصل الحياة، ونهرب من الحياة لنجدنا والحياة وجها لوجه. •••
وأنا صورة من ملايين صور الحياة نهضت أتفهم الحياة كما نهض جميع أولئك المساكين. وكما وقفت قديما على طريق طيبة تلقي الأسئلة على العابرين، وقفت أسأل أبناء السبيل عن معنى الحياة، فقال أحدهم: «هي صدر الأم.»
فالتصقت بصدر أمي فإذا أنا منه في عش دفء وحرارة، وحصن مناعة وأمان، لا ترعبني الرياح العاصفة، والرعود الداوية، والبروق الملعلعة، والسيول المتدفقة. ومر يوم، فضاق بي صدر أمي، وعدت إلى موقفي أسأل: «ما هي الحياة؟»
فأجاب مجيب: «هي الدين والتقوى.»
فبادرت أمرغ جبهتي على عتبة المذبح مخفية أداة التقشف والإماتة تحت مزركش الأثواب، وأقرع صدري مستغفرة عن آثام لم أرتكبها، وذنوب لم تخطر على بالي، فناجتني الصور الصامتة في أطرها، وهمست لي الصلبان بنكال الحربة والمسامير. فمر يوم، وصدر الهيكل الذي كان لينا عطوفا انقلب كالمرمر صلابة وبرودة، وصارت الطقوس الدينية ترتيبا مسرحيا، وأرواح البخور التي كانت تنزل علي فيض الوحي والإلهام غدت مزعجة كعطور تنشرها ذوات الذوق الكثيف، فعدت إلى مكاني من السبيل سائلة: «ما هي الحياة؟»
فقال صوت الغرور: «وهل هي للفتاة غير التيه والدلال والتظرف؟»
فمضيت أساجل مرآتي فتعشقت صورتي فيها، ولم أكن أفارق تلك الصورة إلا لأبحث عما يزينها ويجملها، وكان يبكيني مشهد الباكين، فأصبحت وقد تذوقت لذة اللهو واللعب في نسل خيوط القلوب. ومر يوم، فأطل شبح الملل في عيني، فعدت أسأل أبناء السبيل: «ما هي الحياة؟»
فعلا صوت الحضارة في صفير البخار وجلبة الآلات وقال: «هي الثروة، والجاه العالمي، وأبهة العمران.»
فعدوت في سبيل هذه، سوى أني لم أصرف ساعة حتى تحجر كياني، فعدت والضجر يقتلني أسأل: «ما هي الحياة؟»
سألت طويلا وبكيت غزيرا، وقنطت حتى طلبت الموت فانبثقت صورة من غور عنائي. لم تتكلم وإنما فهمت أن الحياة عندها. أرأيت، يا أبا الهول، النجوم راقصة؟ بلحظة تململ ثابت النواميس فرقصت جميع النجوم حولي، وخشعت الكائنات سجودا لدى من هو شفيعها عند ذي الجبروت، وتناقلت الموجودات صورة وجه واحد، أو فخرت بنسخ خط من خطوطه، وانتحال معنى من معانيه، واستحدثت جميع الأشرقة نورها من تألق عينين اثنتين، وصارت زرقة الجو، وبهجة الربيع، وطلاوة الأمواج انعكاسا مبهما ضئيلا لتلك البسمة؛ تلك البسمة البطيئة الرقيقة النادرة، واستدعتني الألوهية إلى عرشها، فوضعت يدي ويد الباري على لولب الوجود، وقمت وإياه بإدارة حركة الأكوان. فمر يوم، فقمعت ثورة النجوم وقدمت خضوعها للنظام الأوحد، وعادت لكل كائن أهميته في الخليقة، فرجعت أسأل العابرين: «ما هي الحياة؟»
Shafi da ba'a sani ba