ويرى البارودي أن خير الكلام، ما ائتلفت ألفاظه وائتلفت معانيه، وكان قريب المأخذ بعيد المرمى، سليما من وصمة التكلف، بعيدا عن نزوة التعسف، غنيا عن مراجعة الفكرة؛ ويرى أن هذه هي صفة الشعر الجيد، وهذا الرأي يحتاج إلى تمحيص شديد، ولكنه على كل حال يغري بتقدير الشاعر والإشادة بمكانته، وبخاصة إذا عرفنا أن الباوردي كان الجسر الذي يمر عليه الشعر العربي من مرحلة التفاهة والهبوط إلى المراحل التي وصل إليها بعد ذلك.
وقد ذكر أستاذه الشيخ حسين المرصفي، أن الباوردي لم يقرأ كتابا في فن من فنون العربية، غير أنه لما بلغ سن التعقل وجد في طبعه ميلا إلى قراءة الشعر وعمله، وكان يستمع لبعض من له دراية وهو يقرأ بعض الدواوين، أو يقرأ وهو بحضرته، حتى تصور في برهات يسيرة هيئات التركيب العربية، فصار يقرأ وهو لا يكاد يلحن.
ويبدو مما ذكره الأستاذ المرصفي أن البارودي كان موهوبا في حفظ الشعر وفهمه ونظمه، وأنه لم يتعلم أصوله، بل لم يدرس كتابا في الأدب، ونحن لا نستطيع أن نستهين برأي المرصفي؛ فهو أستاذ البارودي، ولكن لا ينبغي أن نسلم بهذا الرأي على إطلاقه، فإن شعر البارودي ينم على تجارب ذاتية وتجارب ثقافية، ولعله اكتسب هذه التجارب الأخيرة من أساتذة غير أستاذه المرصفي، وقد أفاد ولا شك من احتكاكه بالمصلح الثائر جمال الدين الأفغاني، وتلامذته الذين كانوا يمثلون اليقظة الذهنية التي أشعلت الثورة السياسية والثورة الفكرية، وكان البارودي قبل الثورة العربية ينظم قصائد يحض فيها على التخلص من الظلم، ويهدد المالكين بزوال ملكهم، يقول:
يأيها الظالم في ملكه
أغرك الملك الذي ينفد
اصنع بنا ما شئت من قسوة
فالله عدل والتلاقي غد
وشعره في المنفى ينبض بالحنين إلى زوجته وبيته وبلده، ومن شعره الرقيق وهو في المنفى هذه القصيدة:
كيف لا أندب الشباب وقد أص
بحت كهلا في محنة واغتراب
Shafi da ba'a sani ba