وكان الشيخ ينفث دخان سيجارته بحدة وشغف، ولا تكاد السيجارة تنتهي حتى يكون تابعه «أبو تراب» قد لف سيجارة أخرى وقدمها إليه، وعلى مائدة الشيخ عدد كبير من أباريق الشاي، وكان يصب لضيوفه الشاي في الأقداح بنفسه، وهو يصغي لكل كلمة، ويجيب عن كل سؤال، والضجيج يملأ المقهى؛ ضجيج الباعة الجائلين ونداء الصبيان بالطلبات: «قهوة»، «نارجيلة»، «جوزة»، «شاي أحمر»، «شاي أخضر»، «شاي كشري» ... وقرقعة الطاولة، والمجاذيب الذين يصيحون: يا حي! ويهتفون بالصلاة على النبي! وزعيق الزبائن وهم خليط من المعممين، والمطربشين، ولابسي الجلابيب بلا جاكتات، وبينهم الشامي، والمغربي، والسوداني، والمصري، والحجازي، واليمني، والتركي، والعراقي، والإيراني، وفيهم أهل التقوى وأهل الفجور، والمسابح تتشابه في يد التقي ويد الفاجر! وبينهم شواذ يدخنون الحشيش في النارجيلة، ويجالسون الغلمان!
وبرغم هذا الجو كان مجلس الشيخ مهيبا يحترمه كل من يراه، حتى الضجة كانت تحتشم إذا ما اقتربت من مجلس الشيخ، فتسمع صوته عميقا، صافيا، هادرا، وهو يتحدث عن مشكلات العلم والدين والاجتماع والسياسة، بصراحة وتدفق، كانت كلماته واضحة كلون الشاي، متدفقة كإبريق الشاي، وكانت إشارات يديه معبرة، تكاد تسمع فيها رنين الكلمة! وهنا، أدركت لماذا وصفوا جمال الدين الأفغاني بأنه كان يصب الشاي بيد، وينثر الحكمة باليد الأخرى!
وكان علي مظهر شابا وديعا، يبدو من قسمات وجهه أن في عروقه المصرية دما تركيا، عيناه زرقاوان، وبشرته بيضاء، وقد امتد على فمه شارب جميل؛ حذاؤه اللامع، وطربوشه الملتوي المكتوي، المائل إلى اليمين فوق رأسه، وملابسه الأنيقة، تدل على أنه من أصحاب الثراء الذين لم يمارسوا العرق!
وكان يتابع حديث الشيخ برهبة وإرهاب، يصغي بأذنيه، يصغي بعينيه، يصغي بأطراف رأسه، لم يشترك في الأحاديث التي دارت بكلمة أو إشارة أو همهمة.
وكان طيلة الجلسة يطوق صدره بكلتا يديه، كأنما يخشى أن يسقط من صدره شيء وعاه من الشيخ وهو يتحدث!
واستأذن الشيخ في الانصراف إلى مسجد الحسين، وقال إنه عائد بعد ساعة.
ومشى الشيخ ومن ورائه محمد عبده، وعبد الله النديم، وسليم الحجازي، وعبد السلام المويلحي، وإبراهيم المويلحي، وتابعه الخاص أبو تراب.
ووقف كل من في المقهى إجلالا للشيخ، بعضهم اتجه إليه وصافحه وقبل يده، أو حاول أن يقبلها، وبعضهم وقف مكانه وفي يده مسبحة أو فم نارجيلة، وكان أبو تراب خلال ذلك يبتسم للناس في نشوة، مؤكدا لهم بغمزات عينيه وتحريك أصابعه أن الشيخ سيعود بعدما يؤدي الصلاة.
وانتهزت هذه الفرصة، وخلوت بعلي مظهر وسألته لماذا لم يفتح فمه بكلمة عندما كان جالسا مع الشيخ؟! فقال: خشيت أن تفوتني منه فكرة أو تعبير أو تكشيرة أو ابتسامة؛ إن مولانا الأفغاني يعطينا الحكمة في كل حركاته وسكناته!
قلت له: ولماذا لم تصحبه إلى المسجد؟
Shafi da ba'a sani ba