لكن الحزن شيء آخر، الحزن قطيعة مع الحياة، تتوقف عجلة الحياة اليومية، يتغير طعم الأكل في الفم، يستقر الطعام في المعدة مثل قطعة من الحجر، يتغير طعم الماء ورائحة الهواء، تتغير ملامحنا في المرآة، لا نتعرف على وجوهنا كالمعتاد، الحزن لا يأتي دفعة واحدة، بل يأتي في موجات، في شحنات متقطعة. الحزن اكتشاف مفاجئ للموت، زهد مفاجئ في الحياة، مفاصل الركبتين تصبح مخلخلة، العينان تصيبهما زغللة، طقوس الحياة اليومية تصبح هي العبث، ترتج خلايا المخ داخل الجسد، موجات الحزن تشبه موجات الضوء الخاطف، يصبح الجسد خفيفا متحررا من الثقل، يحلق في الفضاء من شدة السعادة، ثم يثقل ويثقل بالحزن مثل قطعة من الحجر.
كانت بدور الدامهيري جالسة على طرف السرير، بجوارها حقيبتها المفتوحة، تتقلص عضلات وجهها بحركة غير مرئية، تحس الغصة في حلقها، يجف ريقها دون إحساس بالظمأ أو رغبة في الماء، تحس الاختناق كأنما الهواء في الغرفة معدوم، تجتاحها رغبة في التنهد، في البكاء، في الصراخ، دون قدرة على الصراخ أو البكاء، الجفاف في حلقها وفي عينيها تحت الجفون، الصمت والخواء في جسدها داخل الأحشاء، يمتد بها الوقت وهي جالسة دون حراك، تبحلق في الفراغ، تسقط في النوم وهي جالسة مفتوحة العينين، تدخل في الليل من حلم إلى حلم، لا تصحو ولا تنهض ولا تبكي؛ لأن الدموع ماتت من الحزن، غدة الدموع تجمدت في الموت، جف ماؤها حتى القاع، حبال صوتها جفت وتقطعت، لم تعد تنطق ولا تصرخ، خلايا عقلها توقفت، أصبح الطريق أمامها مفتوحا إلى الجنون، إلى رحلة طويلة داخل الظلام، قبل أن تولد، حين كانت جنينا في الرحم، يحوطها الماء، ماء أسود كثيف غير قابل للاختراق واتسعت عيناها في ذهول، كانت ترى الضوء، كانت ترى دهشتها في المرآة، دهشة العين العارية ترى نفسها، دهشة الميت يرى موته بعينيه، كان الحزن قد راح وسقط في العدم، وأضاء ركن في عقلها كان مظلما.
لم تعد بدور الدامهيري تخشى الفراق أو الطلاق أو الموت، يمكن أن تحمل حقيبتها وتمضي وحدها في الطريق اللانهائي المجهول. سحبت بدور نفسها من حدقة الكون وعين الله الساهرة لا تنام، لم يكن انسحاب اليأس والفراغ، بل الامتلاء بثراء الوحدة الجديدة الباهرة، كانت الوحدة في نظرها عقابا تتفاداه، ألما تخشاه، وليس متعة تنتظرها، وكانت تسأل بدرية قبل أن تمضي: هل بالوحدة خرجت من العالم أم دخلت فيه بعمق؟
وهمست بدرية بصوت خافت وهي تراها تجر الحقيبة من خلفها: الوحدة ليست في حد ذاتها متعة، لكنها قد تخلق متعا جديدة، ربما تكتبين رواية جديدة، أو تعيشين حبا أكبر من حبك الأول اليتيم، ربما تكتبين بضمير المتكلم، أنا، ولا تتخفين وراء امرأة أخرى وتقولين هي، ربما تنسلخين عن مهنة النقد الأدبي، وتكفين عن مسح أحذية الآخرين، ومنها حذاء زوجك، ربما تمسحين حذاءك أنت، وترين نفسك الحقيقية فوق الورق، ربما تطردين من رأسك ما سمعت من نقاد الأدب، أن الكتابة بضمير الأنا أقل قيمة من الكتابة بضمير الغائب، هي أو هو، أو هم أو هن. إن كتابات النساء يضعفها الحديث عن الذات، نقاد الأدب يا بدور فقدوا الذات والحقيقة، ومن يفقد ذاته يفقد الآخرين.
فتحت بدور الدامهيري الباب، خرجت تجر من خلفها الحقيبة دون أن تلقي نظرة واحدة إلى الخلف، دون كلمة وداع واحدة لحياتها الماضية، رآها زوجها من ظهرها تسير إلى الباب، كان ظهرها مشدودا مرفوعا، سقطت انحناءة ظهرها في العدم، الماضي لن يعود، لن يتحرك الزمن إلى الوراء، وإن تغيرت قوانين الطبيعة وحركة الكواكب، وإن عاد الزمن إلى الوراء، كما يقول بعض العلماء، فلن تعود بدور إلى الوراء، لن تعود، وإن تدخل القضاء أو القدر فسوف تمنعه، سوف تمسح من فوق جبينها ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن تولد.
كان زوجها، زكريا الخرتيتي ، واقفا في الصالة وهي تفتح الباب وتخرج، سقط الضوء على وجهه في لحظة خاطفة كالصفعة، ثم انغلق الباب من خلفها دون صوت، دون غضب، دون حزن ولا ندم، دون شيء على الإطلاق، كأنما الزمن الطويل الذي جمعهما في فراش واحد لم يكن زمنا، كأنما مائة عام هي لحظة خاطفة عابرة، كأنما أصبحت بدور الدامهيري امرأة أخرى، مولودة لتوها هذه اللحظة، هذه اللحظة التي فتحت فيها الباب وخرجت، انفتحت عيناها لأول مرة، أدركت أن الخوف مثل الإيمان الموروث أعمى، إن فتحنا عيوننا تلاشى وتبدد، مثل قطرة ماء تذوب في البحر.
بقي زوجها واقفا في الظلمة، محملقا في ظهر الباب المغلق، داخل منامته الحريرية الرمادية، كانت بيضاء ثم بهتت مع الزمن، مقلتاه الصغيرتان الغائرتان كان لونهما أسود، أصبحتا بلون الملاءة البيضاء، أو انسحبتا تحت الجفون هربا من المواجهة، سعيا إلى النوم من جديد، لكن الصفعة المفاجئة بددت بقايا النوم، استيقظ معه الذكر الآخر القابع تحت المنامة، تحت السروال المتهدل، بدأ صوته يسري في أذنه كالهسيس أو همس الريح البعيد: أنت يا رجل أخطأت في حق هذه المرأة، راوغت وكذبت وتلاعبت حتى أصبح الباب مغلقا في وجهك، نحن الرجال لا نتراجع عن الخطأ حتى تجبرنا المرأة على ذلك، وبعد فوات الأوان، نحن لا نشتهي المرأة التي نملكها، تتطلع عيوننا إلى ما لا نملك، لا نعرف قيمة المرأة حتى نفقدها، هناك شيء معطوب في الرجال، أو ربما في قانون الزواج، قانون وضع اليد والسيطرة، ما إن يسيطر الرجل على المرأة حتى يحدث العطب، إنه تاريخ مكتوب قبل أن نولد، كتبه الآلهة والرسل والملوك والفراعنة، نحفظه عن ظهر قلب منذ الولادة حتى الموت، نرضعه مع لبن الأم، ولبن الأب؛ لأن لبن الأب يتسلل إلى ثدي الأم، متنكرا بلون أبيض بريء، براءة الذئب من دم الحمل.
شوح زكريا الخرتيتي بيده طاردا الصوت، كان لا يزال واقفا في الصالة محملقا في ظهر الباب، يستعيد صورتها بعد أن مضت، يتذكرها في أول لقاء، رغم مرور السنين يظل اللقاء الأول محفورا في الذاكرة، مرت به أحداث وأحداث، لكن هذه اللحظة الأولى بقيت، كأنما في الزمن الحقيقي، كأنما العمر لا يحسب بالسنين، كأنما الزمن غير موجود إلا هذه اللحظة، كان يسمعها تقول وهي تكتب: «لحظة واحدة من العمر قد تساوي العمر كله.» كان يضحك عليها، امرأة جاهلة بمقاييس الزمن، امرأة ناقصة العقل والدين كما سمع من أبيه وجده والمدرسين، كما قرأ في كتب التاريخ والدين، في أول لقاء قال لها: أنا مختلف عن أبي وجدي وكل الرجال، أنا لا أؤمن بالآلهة الذكور.
لكن الله وإبليس كانا قد تسللا إليه مع لبن الأم، أصبحا راسخين في أعماقه كالأسمنت المسلح، هما معا، لا يوجد الكون دون إله وشيطان، لا يشغلهما شيء إلا النساء، مثل كل الذكور.
سار حافيا يترنح، أسرع الخطو قليلا ليدخل دورة المياه، أصبح البول أسرع منه مع الزمن، يتسرب منه قبل أن يجلس فوق المرحاض، تفوح رائحة نفاذة، أشد نفورا مما كانت، يبعد أنفه عن الرائحة، لم يكن ينفر من رائحة عرقه وبوله، لم يكن ينفر من التجاعيد حول عينيه في المرآة، كان يرى تجاعيد زوجته ولا يرى تجاعيده، يشم رائحة بولها وعرقها ولا يشم رائحة جسده، كانت زوجته مرئية بعينيه المفتوحتين، كان يحدق فيها ويراها دون أن تطرف له عين، لكنه كان عاجزا عن رؤية نفسه، كان أعمى فيما يخص الذات، عيناه مثل عيون الآلهة لا ترى إلا العبيد فوق الأرض، لا ترتد عيناه لتحدقا في ذاته العليا؛ لأنها فوق الرؤية، فوق السمع والبصر واللمس والشم وسائر حواس البشر الحسية.
Shafi da ba'a sani ba