Zaytuna da Sindiyana
الزيتونة والسنديانة: مدخل إلى حياة وشعر عادل قرشولي مع النص الكامل لديوانه: هكذا تكلم عبد الله
Nau'ikan
ونسمع التنهيدة فنشعر بأن صحوة الواقع قد جاءت في أعقاب نشوة الحلم باللقاء، أو العناق الذي لم يتحقق بعد. وتتخذ خطوط الطول مضمونا محددا ومعنى مجسدا؛ فالسنديانة الألمانية والغربية، وشجرة الزيتون السورية والعربية يمثلان الحضارتين المختلفتين اللتين يتحرك بين شاطئيهما شراع «الأنا» الشاعرة التي تحاول - ولو في الحلم - أن تقرب بينهما إلى حد التوحد في عمق الذات، الذات التي ضربت الشجرتان جذورهما في صميمها، وبقيت متشبثة بجوهرها وسرها.
وإذا كانت قصائد الشاعر تزخر بالتعارضات والصراعات بين طرفين أو قطبين يحاول أن يجمع بينهما: بين شجرة زيتون وشجرة سنديان، بين الصراخ والصمت، والحب والموت، بين النقد إلى حد الغضب والتمرد والرضا، إلى حد الاعتكاف والعكوف على الذات، فإن «عين الشاعر الثالثة»، أو حدسه الكاشف الذي لا يخطئ، يدله دائما على أن العالم لا يرى على الحقيقة إلا في كليته، وأنه إذا كان يتمزق بين تناقضاته وأطرافه المتصارعة، فإنه لن يجد العالم - كما يقول بيت مشهور للشاعر رلكه - إلا في الباطن وحده. ولا غرابة بعد هذا في أن تنتهي القصيدة بأمر ملح ومعبر عن القلق، ونفاد الصبر: «تعانقي بقوة، بقوة أشد، داخل ذاتي ...» (د) لم يكن الطريق إلى كتابة الشعر بلغة أخرى غير لغة الأم بالطريق السهل؛ فقد شعر في مطلع الستينيات - كما سبق القول - بأنه قد فقد ظله الذي لازمه منذ مولده في نفس اللحظة التي ترك فيها وطنه. ولم يقتصر الأمر على فقدان المخاطب العربي الذي كان يتوجه إليه بشعره المبكر ويتأثر به، كما يؤثر عليه خلال عملية إبداعه، وإنما بلغ حد الإحساس المهول بفقدان الهوية، وجد نفسه في حالة عجز مطلق عن التعبير للآخرين عما يجيش في كيانه، كما وجد الآخرين يعاملونه كأنه طفل متخلف، أو معوق. وبعد أن تحرر من الظروف المهينة التي أحاطت بالفترة الأولى من وجوده في المهجر، واستقرت قدماه في مدينة ليبزيج؛ وجد نفسه في مواجهة اللغة التي يتكلم بها الناس، وتنطق بها الأحداث الجارية من حوله، أمام أحد اختيارين لا بديل له عن أحدهما: فإما أن يغرس جذرا في اللغة والثقافة الجديدة عليه، وإما أن يدفن نفسه بنفسه في قبر الصمت. وكان عليه بطبيعة الحال أن يختار الأولى؛ حتى يؤكد لنفسه أنه حي وفعال ومشارك، وحتى يتمكن من وضع قدمه في صميم الساحة الثقافية الجديدة التي وجد نفسه فجأة على هامشها.
1
وبقي الطريق إلى كتابة قصائده الأولى بالألمانية طريقا شاقا مضنيا؛ فقد سبقته جهود طويلة في دراسة اللغة والأدب الألماني، وتاريخه (إلى حد تكليفه بعد ذلك بالقيام بتدريسه في نفس الجامعة)، وفي الاطلاع على نماذجه الكبرى في شتى عصوره، والتعمق في تذوق بعض قممه الحديثة والمعاصرة، وبالأخص شعر بريشت والأجيال التالية المتأثرة به سلبا أو إيجابا، بالإضافة إلى الإنتاج الشعري لطائفة من أصدقائه وزملائه في معهد الأدب الذين سبق الحديث عن موجتهم الجديدة. (ه) ومرت القصيدة الألمانية، التي بدأ في كتابتها منذ منتصف الستينيات، بعدة تحولات. كانت في الأصل - كما يؤثر أن يسميها - قصائد ظرفية عبرت عن لحظة آنية عاشها، ثم رفعها التشكيل الشعري من حدث جزئي وهامشي إلى حدث كلي وعام. ولست أدري على وجه التحديد؛ هل كتبت القصائد الأولى في الأصل بالعربية قبل أن يترجمها بنفسه، ويضيف إليها أصدقاؤه الألمان لمساتهم الإبداعية، أم أنها ترجمت مباشرة عن قصائد عربية سابقة، وبقيت من حيث الموضوع والشكل متأثرة بالتراث الشعري العربي، واحتفظت بلغة غنية بالصور المذهلة، ونهلت مضامينها من ينابيع الحب والحنين للوطن، والنضال في سبيل الحرية والكرامة والسلام والأخوة البشرية، وسائر المثل، والأحلام التقدمية التي جعلت من الخطاب الشعري دعوة ونداء ورسالة تبشيرية وتحريضية؟ لست أدري هل كان الأمر على هذه الصورة أو تلك؟ فالذي أدريه - من كلام الشاعر نفسه في حوارات ومناسبات عديدة - أن هذه القصائد الأولى قد لفتت إليها أنظار القراء، وبهرت المستمعين الذين تحمسوا لها حماسا جارفا في الندوات التي كانت تلقى فيها؛ بسبب السحر الشرقي الذي يسري فيها، والمناخ العربي الذي كان يظللها، والصور والأخيلة والاستعارات والتشكيلات الجمالية التي عمل الموروث الشعري العربي، مع ذكريات الطفولة والصبا في أزقة دمشق وأمسياتها الحلوة، عملهما في غزل نسيجها؛ أي إنها قد جذبت إليها العيون والآذان بسبب «غرائبيتها»، أو ما فيها من عناصر عجيبة وغير مألوفة. وقد كان هذا على وجه الدقة هو الذي دفع الشاعر على الثورة والغضب؛ فقد رفض أن يكون تحفة شرقية، أو زهرة مجلوبة من بلد بعيد، وهكذا تحولت القصيدة الألمانية من وسيلة ضرورية واضطرارية للتواصل مع الآخر، إلى بنية جمالية متفردة تنتزع الإعجاب بقيمتها الفنية في ذاتها، لا بسبب ما تحتويه بالضرورة من توابل شرقية وعربية، إلى أن أصبحت في النهاية - وبالأخص في ذروة تجلياتها الشعرية على لسان عبد الله في الديوان الذي سنجده في هذا الكتاب - أصبحت مناجاة ذاتية أو صوتا ثانيا يعبر عن حوار الذات مع ذاتها. مر الشاعر بأزمة إبداع استمرت معه قرابة العشر سنوات، قبل أن يصدر ديوانه الذي يضم القصائد التي كتبها بالألمانية مباشرة، ودون الحاجة إلى وسيط من الأصدقاء لإعادة إبداعها وصياغتها صياغة شعرية. ولا شك أن قراءه «الآخرين» قد أحسوا، وهم يطالعون أبيات «عناق خطوط الطول» (1978م)، أو يستمعون إليها من فم صاحبها، أنهم أمام شعر حقيقي لا شعر «غرائبي»، يستثير إحساسهم الموروث بالشرق، أو يرضي أحكامهم وتحيزاتهم المسبقة عن العرب وحضارة العرب. ولعل أول صدى لهذا الاستقبال الجديد هو الذي دعا أحد النقاد لأن يمنحه «المواطنة الشعرية لجمهورية ألمانيا الديمقراطية».
2
ويضم الديوان - الذي اقتبسنا منه قصيدة العنوان، التي وقفنا معها في بداية هذا الفصل وقفة قصيرة - قصائد متنوعة الموضوعات ما بين السياسة والنقد الاجتماعي، وحياة اللاجئين أو المهاجرين، فضلا عن موضوع الحب الذي كان ، ولا يزال هو سند وجوده. (و) كان هدفه من هذا الديوان هو أن يوحد في شخصه بين خطوط الطول؛ غير أن العقبات التي تحول دون هذا التوحيد كادت أن تصل إلى حد الارتطام بجدران المستحيل. وأول هذه العقبات هي مشكلة الحياة والكتابة بلغتين، وبخاصة بعد أن اتخذ قراره الحاسم بأن ينطق لسانه الشعري مباشرة بالألمانية، وأن يخاطب المتلقي الجديد بلغته، ويعبر عن همومه التي يعيشها معه، ويشاركه فيها بالعاطفة والفعل، ولا يقف موقف المتفرج الذي يتخفى وراء قناع الأجنبي، أو المنفي أو اللاجئ والمستبعد. وجد نفسه كمن يبدأ من جديد، وأحس أنه يحيا وينطق ويكتب بلسانين، وأن ذلك يضاعف وجوده في شخصين، أو يشقه نصفين، ولكنه ظل إلى اليوم، كما يقول صديقه الناقد والشاعر هاينز تشيخوفسكي، في تعقيبه على ديوانه «لو لم تكن دمشق» (1992م): ظل يحمل العبء الثقيل بجدارة وكبرياء، وبقدر غير قليل من الحكمة والالتزام والبهجة والمتعة أيضا.
كان على يقين من أنه منفي في اللغة الجديدة، وأن اللغة التي يكتب بها ستبقى مختلفة عن لغة أهلها الذين نشئوا عليها وفيها؛ إذ يتحتم عليه أن يجدد خلقها في كل قول أو فعل تواصلي، وأن يجعلها متطابقة مع حالة المنفي أو اللاجئ التي لا ينكرها، وإن حاول جهده أن يتجاوزها، بحيث تصبح في حقيقتها ووظيفتها لغة للتواصل والأمل، تصبح بيته وملاذه، ومحط رجائه وثقته في المستقبل. صحيح أنها لم تكن لتصبح بالنسبة إليه «لغة الأم»، إذ يستحيل على الإنسان أن يستبدل بأمه أما أخرى، ولكنها استطاعت أن تحتل مكان «الحبيبة» التي تستند إليه كما يستند إليها، وتلجأ إليه كما يلجأ إليها كلما أعوزه التعبير عن هواجسه وشكوكه، وأحزانه وأفراحه، وذكرياته وأشواقه، وكلما أراد أن يشعر بأنه مشارك في الأحداث والتغيرات التي تتم في وطن الغربة الذي اختاره بإرادته الحرة وطنا ثانيا، وآمن بقيمه العليا وتوجهاته الأخيرة، وإن تزايدت شكوكه مع الزمن في صحة تطبيقها وممارستها على أرض الواقع. (ه) هكذا تغيرت اللغة التي جعلها وطنه وسكنه، وبدأ ينظم بها شعره. وتغير المخاطب الذي قصده بهذا الشعر المعبر عن تعاطفه معه، ومشاركته له بالرأي والفعل، والقادر، تبعا لإيمانه الراسخ مع معظم أبناء جيله ب «الكلمة - الفعل»، على تغيير العالم. وكان من الطبيعي أن تتغير أغراض هذا الشعر وموضوعاته عما كانت عليه من قبل، تستوي في ذلك قصائده السابقة بالألمانية، أو بالعربية التي غلبت عليها النغمة العاطفية والحنين للماضي، ولم تكترث باتخاذ موقف نقدي من مشكلات الحاضر وأزماته، حتى إذا شغله الشعر الحديث بعمق، وبالأخص شعر بريشت، حاول أن يصل إلى الوحدة الجدلية التي تؤلف في قصائده بين العقل والعاطفة، بحيث لا يطغى أحدهما عليه؛ ذلك لأن لغة الشاعر، على حد تعبيره في مقال نشره في عام 1965م، بجريدة الشعب التي تصدر في مدينة ليبزيج: «ينبغي أن تكون حوارا بين عقله وقلب القارئ، أو بين قلبه وعقل القارئ، فاللغة التي تتجه من العقل إلى العقل هي لغة العلم، أما اللغة التي تتجه من القلب إلى القلب فهي لغة المحبين.»
كانت عقلانية بريشت الجدلية قد سيطرت عليه فترة من الزمن، حتى أيقن بأنه لن يصل إليه إلا إذا تخلص من تأثيره عليه، وكسا عقلانيته بثوب الصورة والاستعارة النابعة من فطرته، ومن موروثه العربي المغروس في دمه. وهكذا «أخذت الاستعارة، لا الفكرة الواضحة كالبلور، هي التي تقود قلمي، وبدا لي وكأنني لست أنا الذي يشكل شعري، بل إن الشعر هو الذي يشكلني ويؤثر على الرؤية وزاوية النظر، بل وأحيانا على أسلوب الأداء.»
3 (ح) وكما تخلص من العناصر «الغرائبية» التي جذبت المتلقين إليه في البداية، استطاع كذلك أن يتخلص من تأثير بريشت، وتأثير أستاذه «ماورر» وسائر الشعراء - وبالأخص أصحاب الموجة السكسونية الجديدة - الذين تأثر بهم إلى درجة المحاكاة في بعض الأحيان أو المعارضة في أحيان أخرى.
4
Shafi da ba'a sani ba