وبعد الإفطار أحس بالقلق، أو بأنه قد وقع في فخ، كانت المياه أعمق أن يخوضها على قدميه، وما تخفيه مريب يحول دون السباحة فيها، ولكنه كان يملك قاربا، وتطلع فرآه طافيا فوق ماء الفناء، مربوطا بالمنزل، وأحس زيتون بما يشبه الإلهام وسط الخراب الذي حل بالمدينة، أثناء وقوفه على سقف منزله الغارق، وتخيل نفسه وهو يطفو وحده على وجه الماء خلال شوارع مدينته. كانت هذه، من زاوية معينة، تمثل عالما جديدا، لم تطأه قدم. يمكن أن يغدو مكتشفا، وأن يشاهد بعض الأمور للمرة الأولى.
فهبط نازلا على جانب المنزل، وركب القارب وفك الحبل وانطلق.
جعل يجدف في شارع «دارت»، في مياه صافية ذات سطح مستو، ومن الغريب أن يشعر، من فوره تقريبا، بالطمأنينة، كان الضرر الذي لحق بالحي شديدا، ولكن كانت في قلبه سكينة عجيبة. لقد ضاع الكثير حقا، ولكن السكون الذي ساد المدينة كان ذا قوة تشبه التنويم المغناطيسي.
وأبحر بالقارب بعيدا عن منزله، فمر بعجلات وسيارات ذات هوائيات للراديو تلمس قاع قاربه، وكانت جميع المركبات، قديمها وجديدها، قد اختفت ومن المحال إنقاذها، وكانت الأرقام تملأ رأسه؛ مائة ألف سيارة فقدت في الطوفان! وربما عدد أكبر. ما الذي سيحدث لها؟ من ذا الذي يقبلها بعد انحسار المياه؟ وفي أي حفرة يمكن دفنها كلها؟
كان كل من يعرفهم تقريبا قد خرجوا لقضاء يوم أو يومين خارج المدينة، مر على منازلهم، وكان قد تولى طلاء عدد كبير منها بل ساعد على بنائها أيضا، وأخذ يحسب مقدار ما فقد داخلها، وأحس بغصة حين تذكر الألم الذي سوف ينجم عن ذلك الفقدان. كان يعرف أنه لم يكن أحد قد استعد بما فيه الكفاية لهذا، أو لم يكن قد استعد على الإطلاق.
ثم خطر بباله مصير الحيوانات، السناجب والفئران والجرذان والضفادع والسحالي والأبوسوم، لقد ذهبت جميعا. غرقت ملايين الحيوانات. لن ينجو من هذه الطامة الكبرى إلا الطيور؛ الطيور وبعض الثعابين، وأي حيوان يمكنه الاعتصام بأرض مرتفعة قبل ارتفاع الماء، وبحثت عيناه عن الأسماك، فإذا كان يطفو فوق ماء متصل بمياه البحيرة فلا بد أن الأسماك قد سبحت ودخلت المدينة. وكأنما سمعت الأسماك ذكرها، إذا به يشاهد في هذه اللحظة شبح سمكة تقفز في الماء بين أغصان الأشجار المغمورة في الماء. •••
وتذكر الكلاب، فوضع مجدافه على ركبتيه، وترك القارب يطفو دون صوت، محاولا تحديد مصدر النباح الذي سمعه في الظلام.
لكنه لم يسمع شيئا.
وتضاربت في نفسه صور ما يشهد؛ إذ لاحت لعينه لوحة انكسر فيها الضوء، حتى ظهرت أنصاف المنازل والأشجار منعكسة في هذه المرآة التي تشكلت على سطح هذا الماء الذي ساده هدوء غريب، وأيقظت جدة هذا العالم القشيب نزعة المغامرة في نفسه، فشعر بأنه يريد أن يرى كل شيء، بل المدينة كلها، وما أصبحت عليه، ولكن حرفة رجل المعمار داخله جعلته يفكر في الأضرار، وفي الزمن الذي سوف يستغرقه إصلاحها. سنوات، وربما عقد كامل. وتساءل إن كان العالم كله قد شاهد ما يشاهد، كارثة ذات أبعاد أسطورية من حيث الحجم والشدة.
كان الحي الذي يقيم فيه يبعد أميالا طويلة عن أقرب سد من السدود، وكانت المياه ترتفع ببطء جعله يدرك أنه من غير المحتمل أن يؤدي الطوفان إلى وفاة أحد. ولكنه ارتعد حين خطر له ما يكون من أمر المقيمين قريبا من مواقع انفجار تلك السدود. لم يكن يعرف مواقع تلك الانفجارات، لكنه كان واثقا بأن الماء الدافق سرعان ما يجرف المقيمين بجوارها.
Shafi da ba'a sani ba