كان البلد الذي تركه منذ ثلاثين عاما مكانا واقعيا، كانت فيه وما زالت، حقائق سياسية تمنع الثقة العمياء، وتمنع الفرد من الظن بأن كل شيء سوف ينتهي دائما على خير وجه من العدل والإنصاف. ولكنه غدا يؤمن بذلك في الولايات المتحدة، فلقد وفق في مسعاه وتغلب على المصاعب، اجتهد في عمله فأحرز النجاح، فالجهاز الحكومي يعمل بكفاءة، وحتى لو كان هذا الجهاز يميل أحيانا إلى البطء في نيو أورلينز، أو يتسم أحيانا بضعف الإدارة فإنه بصفة عامة يعمل بكفاءة.
ولكن ما عاد اليوم شيء يعمل بكفاءة، أو قل إن كل جزء من أجزاء هذا الجهاز - الشرطة، والجيش، والسجون - التي قصد بها حماية أشخاص مثله أصبح يلتهم كل من يقترب منه. لطالما اعتقد أن الشرطة تستهدف تحقيق مصالح الناس الذين تخدمهم بأفضل صورة، وأن الجيش يتحلى بالمسئولية، والتعقل، والانضباط؛ بفضل دوائر متحدة المركز يزداد اتساعها، وهي دوائر النظم والقوانين والمنطق السليم وحسن المعاملة.
ولكن هذه الآمال يمكن أن تودع الآن مثواها الأخير.
ولم يكن هذا البلد فريدا في هذا، وليس معصوما من الخطأ؛ إذ ارتكبت بعض الأخطاء، وكان هو أحدها، ففي الإطار الكبير للكفاح الأعمى الجشع الذي يخوضه البلد ضد الأخطار المرئية والخفية، لا بد أن تقع أخطاء؛ إذ يصبح الأبرياء قيد الاشتباه، ويزج بالأبرياء في السجون.
وخطر بباله مصطلح «الصيد غير المقصود»، وهو مصطلح خاص بصيد الأسماك، كانوا يستخدمونه في صباه أثناء صيد السردين على ضوء المصباح الذي يحاكون به ضوء القمر؛ إذ إنهم كانوا عندما يسحبون الشباك يجدون آلاف السردين، بطبيعة الحال، ولكنهم كانوا يجدون مخلوقات أخرى، كائنات حية، لم يقصدوا صيدها ولا نفع لها عندهم.
وكانوا كثيرا ما لا يدركون هذا إلا بعد فوات الوقت، كانوا يجيئون بصيدهم إلى الشاطئ - جبل من الفضة - أعداد هائلة من السردين الذي ينفق تدريجيا، وكان زيتون المنهك يستريح في مقدمة السفينة، ناظرا إلى الأسماك التي يتوقف كفاحها تدريجيا، وعندما تصل السفينة إلى الشاطئ، ويفرغ الصيادون شباكهم، قد يجدون شيئا آخر. وذات مرة وجدوا دولفينا. لم ينس قط ذلك الدولفين؛ إذ كان حيوانا رائعا ذا لون أبيض عاجي يبرق في المرفأ مثل الخزف الصيني. وحاول الصيادون تحريكه بأقدامهم لكنه كان قد مات، كان قد وقع في الشباك ولم يستطع تخليص نفسه للوصول إلى السطح للتنفس فمات داخل الماء، لو كانوا قد لاحظوا وجوده في الوقت المناسب لأطلقوه، لكن لم يكن في طوقهم الآن إلا الإلقاء به من جديد في البحر المتوسط؛ حيث يغدو طعاما لكائنات القاع.
كان الألم في جنب زيتون يشتد، ناشرا موجاته في جسمه، لن يكون في مقدوره أن يمكث هنا أسبوعا آخر، لن يستطيع أن ينجو من انفطار فؤاده، من إدراكه للخطأ المرتكب.
كان من المحال أن يتحسن حاله قبل الخروج من هذا السجن. وليس بالأسلوب الذي يعامل به، لقد شاهد بعض مناطق من سجن هنت تتميز، فيما يبدو ، بحسن الإدارة، والنظافة، والكفاءة، فعندما وصل أول الأمر وأجريت له مراسم الدخول، شاهد بعض السجناء يتنقلون في حرية في الفناء الشاسع الذي يكسوه الكلأ، ولكنه كان محبوسا في زنزانته ثلاثا وعشرين ساعة في اليوم من دون تسرية أو صحبة أو جمال. وكان هذا المكان كفيلا بأن يصيب العاقل بالجنون، الجدران الرمادية، القضبان الزرقاء، ومرات التفتيش الذاتي، والاستحمام خلف القضبان تحت أعين الحراس وآلات التصوير، وافتقاد أي شيء قادر على تنبيه الذهن، ولما كان عاجزا عن العمل، أو القراءة، أو البناء، أو تنشيط ذهنه، فلسوف يذوي في هذا المكان.
لقد خاطر بالكثير أملا في أن ينجز شيئا يضارع منجزات أخيه محمد. لا، لم يكن ذلك جزءا من دوافعه الواعية، بل لقد فعل ما يستطيع في المدينة الغارقة لأنه كان موجودا فيها، وكان لا بد من فعل ما فعل؛ إذ كان قادرا عليه. ولكن، ألم يكن يستشعر في باطنه أملا في أن يتمكن هو الآخر من فعل ما تفخر به أسرته، والإخلاص لخالقه بأن يبذل كل ما في وسعه، بأن يطوف بالمدينة باحثا عما يلوح من فرص لفعل الخير؟ وهل كان هذا السجن أسلوب الخالق في وضع حد لكبريائه، والحد من أحلام فخره واعتزازه؟ •••
وبينما كان السجناء يستيقظون، وتعلو جعجعتهم وتهديداتهم، كان زيتون يصلي، ودعا الله أن يهب أسرته الصحة والعافية، وأن يبث في قلوب أفرادها الطمأنينة، ثم دعا الله أن يرسل رسولا، لم يكن يحتاج إلا إلى رسول، شخص يبلغ زوجته أنه على قيد الحياة، شخص يربطه بذلك الجانب الذي لم يتعطل في هذا العالم.
Shafi da ba'a sani ba