الأمس واليوم والغد كلها واحدة، والسابق منها دليل اللاحق. ومهما يكن في المستقبل من الغيب فما هو إلا كالذي تقدمه والذي كان غيبا مثله، وإنما لك الساعة التي أنت فيها.
نعم لنا الساعة التي نحن فيها، وخير ما نقضيها فيه أن نرقبها تمر، ونكون أهدأ منها بالا. لم يشغل الناس أنفسهم بأشياء لا ثبات لها أكثر مما تشغل هي نفسها بها؟ وهل يعتقدون أن اهتمامهم بها وعملهم فيها يزيد حظهم سعادة أو رضا؟ كلا! وإنما هي الحياة تسحرهم بمشاغلها وتشغلهم حتى لا يروا حقيقة أمرها وشكلها الفظيع.
أما أنا فراض اليوم، لا حبا في الحياة، ولا طمعا في الاستزادة منها، ولكن لأن الفرح بها لا يزيدني سعادة، والغضب عليها لا يخيفها مني، ولا يجعلها تقدم لي شيئا جديدا.
أنا راض بها وهي الأخرى راضية بي . وما دمنا على وفاق فإنا نسير معا حتى تجيء الساعة التي يمل أحدنا صاحبه فيرفضه، وينفصل الآخر عنه، وأروح أنا إلى عالم آخر ساكن لا ضجة فيه ولا حركة ولا حساب فأكون أكثر هدوءا مني اليوم، وتنتقل حياة هذه الأرض إلى غدها وبعد غدها لينفصل عنها قوم وينضم إلى حزبها آخرون.
بقي حامد على هذه الحال من عدم الاهتمام بما حوله والجمود أمام كل شيء أياما طوالا كانت عنده أيام لذة وهناءة حقيقية، لذة غير هاته التي نخلقها لأنفسنا بما نهيجه فيها من العواطف ونثيره من الإحساسات، أو بما ننيلها فيها من لذات الخيال التي تصورها لنا أحلامنا، ثم تنقلنا إليها لتخفف بعض الشيء من بؤسنا ويأسنا، بل لذة تلمسها اليد وتجيء إليه تلفه هي في ردائها، فيشعر معها بالرضا والنعيم ولكنها لا تهمه أكثر مما يهمه أي شيء آخر.
كان يخرج أحيانا إلى المزارع ساعات الأصيل، وشمس الخريف مريضة ترنو للكون الذاهل في ذبوله ومشيبه بعين جمعت مع العطف والاسترحام، ومع الإشفاق الوجل، ويسير بين زروع القطن الأجرد الأسود والذرة قد خلع أوراقها من يريدها طعاما لأنعامه، أو هي تدلت إلى جانبه قد أتى عليها الموت، ويسلك طرقا كانت محببة إليه، ولها عنده من الذكرى ما لا ينساه حياته، فلا يهيج ذلك من نفسه شيئا، ولا يحدث عنده أثرا.
ولكن هذه الحال ليس من طبعها أن تستمر. ومهما جلبت لنا من السكينة فإنا لا نرضى البقاء الدائم فيها كأنا نساعد الوجود على مضايقتنا. أو أن المرء لا يستطيع أن يعيش من غير آلام وآمال يملأ بها حياته.
أحس حامد كأن أيامه فارغة خيالية، وأن عيشا كل أمرنا فيه أن نبقى كذلك سكوتا أحرى به أن يهجر إلى السكون الأكبر الخالد، سكون الفناء. وبذلك بدأ يجاهد ليخلق لنفسه مشاغل شتي يتسلى بها عن ضيقه، فهو يذهب للمزارع ويراقب العمال ويرى الزرع، ثم يرجع إلى الدار فيبدي لناظرهم ملاحظاته، وينبهه إلى مواضع الخطأ في العمل، وصار يجد في ذلك من السرور ما لم يكن يعرف من قبل. فلما كان في بعض الأيام - وقد ترك البلد لساعتين بعد الزوال، وسار مع أخ له سارحا إلى المزرعة، والشمس إذ ذاك قوية يتنزل شعاعها تصهر به الأرض - رأى عن بعد امرأة راجعة، وعلى يدها ما بقي من غداء صاحبها العامل، فسأل أخاه أيعرفها؟ وحددا نظريهما نحوها حتى تبيناها زينب راجعة بعد غداء حسن، فشعر حامد كأن شيئا يهزه، وتمهل في خطاه إلى أن تلاقيا، فأهدته هي التحية مستمرة في طريقها، وردها عنه أخوه، ثم سارا كما كانا من قبل حتي وصلا صامتين ساكتين.
ثم التفت أخوه نحوه وقال: فاكر يا حامد من قبل زينب متتجوز يا أخي البنت دى زي اللى بترفع وكل البنات لما بيتجوزوا بيتخنوا.
وصلا إلى غايتهما، وجلسا تحت شجرة قائمة على شاطئ الترعة، وجاءهما العامل القائم يسقي هاته الأراضي يعدها للبرسيم، فسلم عليهما، وسألاه إن كان ينتهي من عمله ذلك النهار، فأجابهما إيجابا، ثم راح لعمله، وبقيا يتحدثان وينظران للماء ينساب إلى جانبهما، والسماء الصافية منشورة فوقهما، وبعض العصافير تنط أو تطير حولهما. ثم جاء عليهما سكوت ذهب كل منهما فيه إلى أحلامه وخيالاته. «فاكر يا حامد زينب قبل ما تتجوز» - هذه هي الكلمة التي عادت مرارا إلى نفس حامد، ولم يستطع معها أن يفسر ما تحويه من قديم الذكر، أو ما يجول بصدره من الإحساسات. ولم يقدر على البقاء طويلا بالمزرعة، لأن سكونها واستسلامها يكاد يقتله. فطلب إلى أخيه أن يرجعا حتى إذا كانا في الدار صعد إلى غرفته وأغلق بابها عليه.
Shafi da ba'a sani ba