وفي ليلة السوق كان الكاتب في غرفته، ومعه ولد يبلغ الثانية عشرة من عمره يعينه على عمله، وأمامهما مكتب من الخشب الأبيض قد وضعت عليه الدفاتر. وقام مصباح ضئيل النور - «لمضة» خمس شمعات - يزيد نوره ضعفا ما على زجاجته من التراب. وعن جانب دواة بمقلمتها النحاسية، وعن الآخر زجاجة صغيرة ملأى لنصفها بالحبر. وأحاط بالمكتب جماعة من العمال أمسك «التملية» منهم دفاترهم بيدهم، وانحنى الآخرون يسألون عن عدد أيام شغلهم، وعلى شباك الغرفة وقف أولاد وبنات وشبان يعلوهم الصمت ساعة، ثم يتكلمون جميعا بين أسنانهم، يظهرون حنقهم على هذا الكاتب الذي يضايقهم ساعة أخرى . وبعد أن طال بهم الوقوف صدر قرار بأن الدفع سيكون في السوق.
هنالك عم الاستياء وصرت تسمع من جوانب شتى: واللي مش رايح السوق؟
وتكررت هذه الكلمة وسواها من مثلها. ثم بلغ الاستياء أن صمم بعض العمال على الذهاب إلى المالك نفسه لتقديم شكواهم إليه. وفي تلك اللحظة مر أحد أقاربه المحبوبين عند العمال، ومن لهم بعض الجرأة عليه، فأحاطوا به، وجعل كل يشرح له عذره، فيرضي خاطرهم بكلمات تسرهم ولكنها لا تفيدهم شيئا.
انصرف الأكثرون منهم مقتنعين أنهم في صباح الغد سيقبضون، وآخرون رجعوا إلى الكاتب يسألونه عن قيمة ما لهم، فإذا لخليل أبو جبر ستة أيام، أي ثمانية عشر قرشا. أما عطية أبو فرج فقد أمضى أكثر أيام أسبوعه مريضا، فخرج منه بستة قروش، وهو يعول امرأة وبنتا صغيرة، ويساعد أما له دقتها الأيام، ولم يبق لها من أبنائها من يعينها سواه. بالرغم من الخلق المرقوع الذي يلبس هو وبقية أفراد عائلته فلم يكن من سبيل لغير هذا ما دام الأجر على ما هو عليه من ضعف. وإنه ليحمد الله على كل حال، وعلى أن جاموسته لم تمت كما حصل لجاره مبروك أبو سعيد، فتضطره لأن يبقى في المصيبة شطرا من عمره.
في الصباح حضر الكثيرون منهم من جديد إلى الكاتب. ومن جديد عبس في وجههم قائلا أن ليس معه «فكة». وبالرغم من إلحاح بعضهم وإقرار الآخرين عملهم فقد خرج المالك وهم لا يزالون يناكفون الشيخ علي، والشيخ علي لا يسمع كلامهم. فذهب منهم من يشكو للسيد محمود أمره، وإن كان يعلم أن السيد يعيرهم في الغالب أذنا صماء. ولكنه في هذه المرة نادى كاتبه، وأخذ بنفسه أمر إرضاء هؤلاء المساكين الذين بشت وجوههم، وافترت بالسرور ثغورهم، وجعلوا كلما رأوا الكاتب خارجا من عند السيد ينظرون إليه ويتغامزون. وأنسى الشيخ علي أمرهم ما هو فيه من كرب، إذ أخذ عليه سيده غلطة في الحساب، فهو يعنفه من أجلها. وأخيرا صرف العمال بعد أن صرف لهم أجورهم، وذهب الكثيرون منهم وهم أشد ما يكونون فرحا، خصوصا وأنهم رأوا الكاتب صغيرا أمامهم.
ذهب الكثيرون منهم إلى السوق. ولقد كان هناك أبو زينب منتظرا أن يرى الكاتب فيأخذ منه أجر أبنائه. ولم يبطئ الشيخ علي، بل ما لبث أن تلقى أوامر السيد حتى ذهب هو الآخر للسوق، وصرف لهؤلاء الآخرين استحقاقهم بعد أن حصل على «الفكة». •••
تقضت أيام بعد ذلك وزينب تذهب لنقاوة القطن تحت رياسة إبراهيم، حتى إذا جاء وقت الحصاد انتقلت هي وأختها وأخذ الرياسة عليهم حسين أبو سعيد. فكانتا تذهبان هما والعمال تحت جنح الليل الأمين وينامون في الغيط، تكلؤهم السماء حتى منتصف الليل، ثم يقومون وقد أعطت الرطوبة عيدان الغلة شيئا من اللين بحيث لا تتقصف تحت كل يد لامسة، فيجيئون بشراشرهم على هذه المزرعة الواسعة.
في هاته الليالي الساهرة، هاته الليالي البديعة يموج في جوها نسيم الصيف البليل، وتتلألأ في سمائها الكواكب اللامعة، يقوم جماعة الفلاحين فيعتاضون بها عما يناله المترفون من أسفارهم إلى أجمل بقاع الأرض، وعن دثرهم الناعمة يستعيضون القمر الساهر يكلؤهم بحراسته. وفي جوف الظلمة الصامت الأمين يرسلون بآمالهم وأمانيهم، ويحمل هواؤها الحلو أغانيهم على جناحه، ويملأ بها ما بين السموات والأرض.
في هاته الليالي تجد الكواعب من بنيات الفلاحين مسرح آمالهن، وتجد القوية المتفوقة منهن السبيل إلى الظهور حيث تسبق الآخرين وتضطرهم بذلك للإسراع وراءها - حتى هذه الطوائف الفقيرة أحوج الناس إلى التعاون، تعمل المنافسة في نفوسهم وتسوقهم بذلك للجد والعمل، ولكنها الطبيعة تريد أن تستعبد الإنسان وتستغله، لتزيد الكون حركة وسيرا، فتعمي على الفرد، وتسحره عن نفسه، وتدفعه لإتمام غرضها. فالواحد مهما عمل، ومهما جاهدت المدنية لإظهار شخصه، مسخر للجماعة يخدمها، مسوق لذلك بالرغم منه. وهو مهما كانت نواياه أنانية يعمل غير شاعر لخير الجميع. أليس من خيره أن يغير نواياه؟
وقد أبدعت الطبيعة في زينب وأعطتها بذلك تاجا معترفا به من كل صويحباتها. فإذا ساقك الحظ أيام الصيف، وخرجت في ليل غاب بدره، وتألقت نجومه فخففت من سواد الليل ، وإن لم تقدر على تبديد ظلمته، أو كنت أسعد حظا واتخذك القمر رفيقا، فأدلجت بين تلك المسطوحات الزراعية الكبيرة. لم يكن لك بعد نقطة معينة إلا أن تسير في طريق لا تعرف سببا لسيرك فيه، وتندفع مجذوبا بقوة لا قبل لك على مقاومتها، ويسبق رأسك قدمك، ويسوقك موقفك وذلك الجاذب وهواء الليل الجميل إلى أن تهمهم بين أسنانك، أو تنادي آهة المستحسن الطرب، أو تدعو الليل يجيبك صداه، ولا تزداد في كل ذلك إلا اتباعا لقائدك المحبوب. ثم تصل إلى نقطة تقف عندها، ولا تطاوعك قدمك إلى أية ناحية أردت تحريكها، وتمد عنقك وتسترجعه، يستخفك الجمال ويلعب بقلبك الهوى، وتروح تائها عن كل ما حولك. ثم يرتفع ذلك الصوت الذي جذبك إلى موقفك ثانية، فتصيخ له بأذنك، وتصغي بكليتك، فإذا زينب تحدو والعاملات من بعد ذلك يجبنها.. تلك موسيقى الصيف في ليله البديع، ترسل في أذن الخليقة النائمة نغمة الهوى، وتبعث في قلوب العاملين العزاء عن ليلهم الساهر. وهل هذا الصوت الذي تردده الظلمة الصامتة إلا مهيج في النفس أجمل ما يعزيها عن كل مشقة؟!
Shafi da ba'a sani ba