وإن ما وصلت إليه الإنسانية لا يسمح لها بشيء من ذلك التغير الذي تطلبون.. وموقفها اليوم عمل قرون وقرون. عمل ملايين فائتة من السنين.. ولن تقدروا على إنكار ما لذلك الماضي بصوابه وأغلاطه من الأثر كما لا تقدرون منه على شيء.. وكل ما في يدنا اليوم أن نعمل لتغيير بعض عاداتنا فندخل للصلة بين الرجل والمرأة الهناء الذي ينقصها.
ذلك هو الصحيح وهو الممكن. وكم يجد الناس في العائلة من الهناءة لو عقلوا معناها! وكم تقدم لهم يومئذ من السرور والسعادة مما لا يتصورونه اليوم.. ألأن هذا المعنى مفقود عندنا تظن يا صديقي أن كل عائلة كعائلتنا ظاهرة التخاذل والبؤس..
العيش عندنا شقاء ومرارة، ولكن ذلك لفساد تربيتنا.. هل تحسب الشاب الذي يشغل نفسه بكبير الأمر وهو في السادسة عشرة من عمره إلا عجوزا في العشرين! فإذا ما جاءته زوجة طفلة لا تعرف من الوجود إلا حيطان دارها، لم يكن بينهما عن الصلة إلا ما يقضي به الحديث «تناكحوا تناسلوا».
العائلة العائلة! لو تحقق معناها للمسنا السعادة بأيدينا ورتعنا في سعة منها كل أيامنا.. ولكن وا أسفا فأنى هي؟!
ليحب جماعة الشبان، وليعبدوا من يحبون، ولا يعطوا أنفسهم لتوافه يكبرون أمرها، فالمستقبل الطويل ينتظرهم بأثقال من العمل لا يعرفون في شبابهم مبلغها.. وإنهم من بعد ذلك لواجدون في تلك الأيام المملوءة بالمتاعب والأعمال ما يخففها عنهم وينسيهم ألمها ...
علي أفندي: سيتزوج أسعد أفندي غدا كما تزوج آلاف من قبله وكما ستتزوجان أنتما يوما ما. صورا كما تشاءان الزوجة التي يريد كل منكما! اجعلاها مثال الكمال والجمال! اخلقا منها أمامكما ملكا كريما! هي ستكون امرأة كالأخريات، وستكونان بعد زواجكما لا سعداء ولا أشقياء ... ستكونان ككل الناس.. وإذا قصرتما بعض الشيء من أجنحة خيالات الشباب وعشتما في عالم الواقع رأيتما صحة ما أقول ... عرفت في الزمن الماضي ابنة كانت خادمة في أحد المطاعم في فرنسا.. وبعد شهور غبتها ورجعت لم أجد هذه الخادمة.. فلما سألت عنها قيل لي إنها تزوجت بفتى كان خادما في قهوة.. وماذا كان سبب زواجهما؟ أنهما ضما ما وفر كل واحد منهما، وتمكنا بذلك من فتح دكان كانا يشتغلان فيه مستقلين وبربح أكثر.. وفي أريافنا يتزوج الناس كل يوم لا ليعيشوا سعداء ولكن لتكون مع الرجل امرأة تعينه في حياته وتشاطره متاعبه، ويهون بذلك كل على صاحبه قسما من هذه المتاعب.. ومن الخطأ أن تعتقدا أن أهل الطبقات الأخرى ينالون من الزواج أكثر من هذا.. وإذا شاءت المصادفة مرة أن أحدهم أحب زوجته وأحبته وعاشا بذلك في النعم فهذا استثناء وقل أن يدوم..
في تلك الساعة، وقد ابتدأ الليل يدخل من حيث كانت تدخل الشمس، والغرفة يهجرها الضوء قليلا قليلا، والمآذن يكسوها الضباب قد ارتقى جوفها المؤذنون، ثم في لحظات ارتفع صوتهم يقطع الصمت والسكون، رفع حامد حاجبيه وبنغمة محزونة هادئة قال: وهل أحلام الحب أكثر تحقيقا من أحلام السعادة في الزواج؟ •••
بعد ذلك الحديث ودع حامد أصدقاءه إلى الباب، ورجع مهموما مثقل الصدر مشتت الخاطر، وجلس يحدق إلى لوحات في غرفته تمثل الأهرام وغيرها من الآثار العتيقة الخالدة تعاقبت عليها الأجيال وهي جديدة أمام عين كل جيل جديد.
بقي محدقا إليها وإن اشتغلت أفكاره بعيدا عنها ، ثم ألقى برأسه فأسنده على يده وراح في نسيان طويل أخرجه منه أن نودي للطعام.
وجاءت ساعة نومه، فتمطى في مضجعه، وذهب خياله إلى أحلام لا حدود لها، وأقفل عينيه يريد النوم، فلم يجد إلى النوم سبيلا، بل فتحهما واسعتين تحدقان وسط الظلمة الحالكة. وطال به الوقت كذلك، فقام ففتح ستار النافذة، فأطل منها وسط حندس الليل الدامس إلى سماء لا نجم فيها تزيد الليل دجنة، وألواح الزجاج الباردة لا تنم عن شيء مما وراءها، فأسند إليها جبينه المحترق، ووقف يفكر ويستعيد أمام نظره ماضيه الطويل.
Shafi da ba'a sani ba