يرى أن النص حمال ذو وجوه، يحتمل معاني متعددة وأحيانا متباينة. ولذلك فإن النص بطبيعته، أيا كان مصدره، لا يفهم فهما سليما إلا من خلال الاستناد إلى أمر خارج عنه. هذا الأمر هو الواقع. والواقع لا يستكشف إلا من طريقين: الطريق الأول هو الحس والمشاهدة. والطريق الثاني هو الاستدلال بالعقل. ففيما يتعلق بمعرفة الله؛ فنحن نعلم أنه تعالى لا يعلم بالحس ولا بالمشاهدة، فليس لنا وسيلة إلى معرفته إلا الاستدلال بالعقل. وفيما يتعلق بالأمور التشريعية فإن العقل يمكنه أن يدرك المصالح والمفاسد وبالتالي يطابق بين التشريع وبينها. النص وفق هذا التصور لا يملي على العقل معلوماته عن الله تعالى أو عن المصالح والمفاسد، بل يثير انتباهه إلى ما كان غفل عنه العقل، ولربما ظل كذلك لدقة بعض تلك الحقائق. إلا أن هذه الحقائق التي كان غافلا عنها، والتي أثار النص انتباهه إليها، من شأن العقل أن يصل إليها بمفرده، لو قدرنا وافترضنا أن العقل وجه توجيها سليما. لذلك وفق هذا المنهج فنحن نعقل معاني النصوص ولا نكرر ألفاظها كلما ذكرناها. النص يثير دفائن العقول بحيث يصل العقل بنفسه إلى معرفة الله تعالى، كما يصل إلى معرفة ما يجب عليه من الأفعال. النص في هذا المنهج يرشد العقل إلى إدراك الواقع. أولوية العقل على النص تعم كل ما يأتي به الأنبياء. نعم يوجد فرق بسيط بين العبادات التي يرشدون إليها وبين الشرائع التي يضعونها. في مجال العبادات يضع الأنبياء قواعد سلوكية تعبدية يدرك العقل بشكل عام أنه بحاجة إليها. فالإنسان يدرك حق الله عليه، ويدرك أن عليه أن يؤدي الشكر لله تعالى على ما أولى وأنعم. كما يدرك حاجته للاتصال بالله تعالى مصدر كل قوة، ومنبع كل خير، والعالم بكل شيء. ويعلم الإنسان أن أغلب البشرية إن لم يكن جميعها تحتاج في أداء شكرها لله تعالى وفي الاتصال به إلى ممارسات حسية. وعليه فالعقل يدرك الحاجة إلى وجود ممارسات تعبدية. ونلمس هذا من دعوة إبراهيم صلى الله عليه{وأرنا مناسكنا}[البقرة:128]. إذ يطلب من الله تعالى أن يرشده إلى الوجه الذي من خلاله يعبده به. يدرك العقل أيضا أن تحديد هذه الممارسات يحسن أن تخرج عن مسؤولية الإنسان، وتكون لله وحده، وذلك لأكثر من سبب:
أ. هناك لا محدودية في الاحتمالات الممكنة لتلك الممارسات، فهي في نهاية الأمر تكسب قيمتها لا من ذاتها، أو شكلها، وإنما من المعنى الذي يفترض أنها تعبر عنه، وبالتالي يمكن لنا أن نتصور أشكالا متنوعة ومختلفة من الممارسات العبادية والتي لا يختلف أحدها عن الآخر من حيث شكل الفعل، وإنما سيكون الاختلاف في المعنى وراء الفعل.
ب. إن أخذ هذه الأمور من الله تعالى له قيمة روحية أساسية هي التعبد المحض لله تعالى فيما يريد، كيفما يريد.
ج. هناك ضرورة إلى وحدة الممارسات بين الأمم، لخلق روح جماعية ضرورية، وهي قيمة لا يمكن تحقيقها لو كان لكل منا الخيار في اختيار الشكل الذي يريد من خلاله أن يعبد الله تعالى. ونجد أن مع كل الاختلافات التي حصلت بين المسلمين في كل شيء، إلا أن شكل الممارسات التعبدية لله تعالى لم يختلف عليها. فالكل يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويدعو الله.
Shafi 50