فأسر القس جبرائيل إلى القس بولس كلمة، ثم قال: سافري يا بنتي مع زوجك وولدك، وبعد يومين أزورك والقس بولس في بيتك الجديد، وإذا اصطفتم في لبنان نرافقكم ونقيم وإياكم هناك. - أصحيح ما تقول؟ أتسافر وإيانا إلى لبنان يا أبي، إذن لنسافر من هنا. - ذلك مستحيل، ينبغي لي أن أعود اليوم إلى حيفا لقضاء بعض حاجات وسنسافر إذا شئت من هناك بحرا. - ليكن ذلك يا بنتي، سافري اليوم وزوجك. - وهل تسافر وإيانا إلى لبنان. - نعم، نعم. - وبعد يومين أشاهدك بحيفا عندنا؟ أتزورنا بعد يومين؟ - نعم، نعم. - ونسافر يومئذ إلى لبنان. - نسافر إلى لبنان.
وبينا كان القس جبرائيل يتناول العشاء وضيفه ليلة ذلك النهار خاطبه قائلا: ما ضرك لو أقمت عند بنتك؟ - لا يضر ذلك بي بل يضر بها وبزوجها. - وهل أنت متيقن؟ هل أنت مؤكد أن عملك هذا إنما هو إكراما لهما فقط، لا تجبني على هذا السؤال، أجب نفسك، أجب ربك. - كل كلمة من كلماتك يا قس جبرائيل تفتح بابا من الحق للنفس وبابا من العذاب. - والعذاب في سبيل الحق عذب، وإنه لمحتم علينا قبول ما جره السالف من أعمالنا وذنوبنا، القضاء لا يرد، والله سبحانه لا ترد أحكامه، وإن الحقيقة التي تطهر النفس لفوق السعادة، أي نعم، وما شأن السعادة يا ترى إذا قابلناها بفضائل النفس السامية، بالصدق والإخلاص والبطولة والصبر والاستشهاد في سبيل الحق، فالحق يعلو ولا يعلى عليه، ما كان مكتوما سيعلن وما كان مختبئا سيظهر، لتكمل مشيئة الله.
فطأطأ القس بولس رأسه مرددا: لتكمل مشيئة الله.
وفي صباح اليوم الثاني نهض باكرا يودع القس جبرائيل. - إلى أين يا أبتي؟ - إلى حيفا.
فأحنى القس جبرائيل رأسها قائلا: رافقتك السلامة.
الفصل الخامس والعشرون
وقفت مريم في شرفة البيت بحيفا تنظر تارة إلى البحر وتارة إلى جبل الكرمل ثم تدور ببصرها وبقلبها إلى فريد الواقف قربها يسائلها عن البواخر في المرفأ، البحر فالسفر فالحرية فالجهاد فالإقبال فالمجد، لقد لاحت هذه الكلمات في جوانب نفسها كوميض البرق فأنارت هنيهة ظلامها واستفزت الخامد في منازعها.
ونظرت إلى الدير على قمة الجبل المقدس فأخذتها رعدة دبت إلى صدرها فأثارت كوامن غمها، ذكرت أيامها في الدير بالناصرة فصعدت الزفرات، وذكرت يوم سافرت من هذا الشاطئ ومدام لامار فاعترتها هزة أيقظت فيها رواقد الرغبات والهمات.
وهب هواء البحر فوق البساتين يحمل إليها شذا الورد والفل والياسمين فأنعش فؤادها وأحيا المائت من آمالها، فجثت أمام ولدها تضمه إلى صدرها، وتقول: شفيت يا حياتي، شفيت يا عمري، وغدا نسافر، غدا، غدا.
وكان زوجها وهو ينتظر قدوم الطبيب جالسا على الديوان في فناء الدار منقبض النفس مستسلما إلى الأفكار والهواجس: إذا كانت تفضل أن تقيم ووالدها لم قبلت بعقد الزواج يا ترى؟ ولكنها معذورة، المرض يذهب بمحاسن الخلق والخلق، وهذا الراهب أبوها، راهب مجنون، سيجيء غدا بيتي يقيم فيه وابنته، على رأسي الابنة، أما الأب؟ فلا أعرفه ولا أحب أن أعرفه، لا والله، حسبي ما اقتبلت وما قاسيت، أمي أبي أهلي الناس كلهم ينظرون إلي شذرا ويضحكون مني، وإذا علموا بأمر الراهب يسلقونني بألسنتهم، تأكلني نار الشماتة والسخرية، لا والله لا، إذا جاء هذا البيت يجد الباب مقفلا دونه، ليرجع إلى ديره يستر فيه عاره.
Shafi da ba'a sani ba