ثم خلع جبته وغطاها بها. - نامي قليلا لنقوى على السفر غدا.
ثم أطفأ القنديل وخرج من الكوخ، فجلست غصن البان على تلك المرتبة ورأسها بين يديها تفكر في مصيرها، والقس جبرائيل يتمشى على الرمل قلقا معذبا يردد ما أسمعه الوهم من أصوات الليل والقبور. - لو أحببتها لتركتها في الجحيم! لو أحببتها لأقمت وإياها هناك، لو أحببتها لقتلتها! شياطين الجحيم! أتتبعني لتهزأ بي، لتسخر مني، لتضحك من مسعاي، هيهات هيهات! أواه، رأسي يلتهب وهواء الفجر لا ينعشني. من أمات نفسه أحياها، من قتل نفسه أحياها، رب الأكوان! إن نجومك ورمالك لتخفي الصغير والكبير من أسرارك، من أحيا نفسا أخرى أحيا نفسه، والنفس إذا عادت إليها حياتها الدنيا عادت الرغبات معها والأهواء والشهوات، كانت مريم ضالة فوجدت، ومن وجدها؟ من أنقذها؟ من ذا الذي عاد بها إلى الحياة إلى مطهر القلوب؟ أنا الفقير إليك يا ربي، فهل ينبغي لي أن أقتل النفس الجديدة في تلك التي أحييتها، لك المجد، بتحقيق آمالي وبتوفيق مسعاي؟ لم تزل تظن أن الذخيرة مني، مسكينة واهمة، سأكشف لها السر، سأطلعها عليه، فتكرهني لذلك، تلعنني، وقد تتفلت من يدي فيخفق مسعاي ثانية، ما العمل؟ ما العمل؟
جلس على الرمل قبالة الكوخ يتأمل الربع الأخير من القمر وقد ظهر في الأفق فوق الرمال يرفع سجفا من سجوف الظلام، وأقبلت طلائع الفجر الأولى تطارد الليل فتميزت الصحراء والسهول وبدت رءوس النخيل قرب الهرم كأحمال من الرتم حول الأتون، وهب نسيم الفجر فأنعش الراهب وجدد فيه العزم والثبات. - سنسافر اليوم، سنسافر اليوم.
ورفع رأسه فإذا بغصن البان واقفة في باب الكوخ تنظر إليه، والقمر ينير وجهها، والنسيم يداعب شعرها، فنادته بصوت متلجلج مضطرب ودنت منه تخاطبه قائلة: ظننتك هجرتني، وقد تفعل، من يعلم؟ اسمع يا قس جبرائيل، أحب أن أعرف إلى أين ذاهب بي؟ وما الغاية من سعيك هذا؟ أتريد أن تنقذني من موبقات المدينة؟ هذا مستحيل، الموبقات ليست في المدينة بل في قلبي، رح يا سيدي في سبيلك، ودعني أعود إلى شقائي، إلى بؤسي، إلى وحدتي، إلى جحيمي، لا تقترب مني أدنسك، يدي ملطخة بالإثم، جسمي مدهون بزيوت الفحش والعار، في صدري تحتدم نيران الشهوات، في عيني رماد كان بالأمس نار رغبات سماوية، في شعري سم قبلات العشاق والمحبين، لا تقترب مني أدنسك، سر في سبيلك، عد إلى نعيمك، ودعني أعد إلى جحيمي. - سنسافر اليوم، هذه الساعة إن شئت، إلى طبريا حيث السعادة تنتظرك، تناديك من تلك الأرض المقدسة، لا تسترسلي في الأوهام، وطدي ثقتك بالله، لا ترتابي ... - أرتاب في أنك صليبي. - وستسافرين معي إلى طبريا فتلتقين هناك ومن تحبينه. - ومن أحبه؟ عساك تحلم بزواجي، أنت مخطئ، ليست غصن البان تلك الفتاة مريم التي كنت تعرفها، خاطرك الوداع، أدعو لك بالتوفيق حيث سرت، وحيث حللت. - وهمت بالذهاب فأمسكها القس جبرائيل بيدها وأوقفها. - اتركني! - قفي قليلا، ادخلي، اسمعي كلمتي الأخيرة. - لا، لا.
فجرها إلى الباب فوقفت هناك متمنعة متمردة. - دعني أذهب إلى سبيلي. - عبثا تحاولين التفلت من يدي. - اتركني، لا تكرهني.
فضغط على معصميها فصرخت متأوهة والتوت تحت وجهه الناظر إلى وجهها كغصن هصرته الرياح، فنهض بها حتى كاد خدها يلامس لحيته، وهو ينظر إليها بعين لاح فيها وميض الشهوة التي طالما خدعتها فأصبحت بين يديه كالعصفور رماه الصائد، لا تبدي حراكا، فحملها إلى داخل الكوخ وهي ترتعد بردا وحبا وجزعا، وما لبثت أن أغمي عليها، فمددها القس جبرائيل على المرتبة وطفق يفرك يديها ورجليها ويناديها باسمها مطمئنا مطايبا.
وفي تلك الساعة دخل القس بولس عمون قادما من البلد، فوقف في الباب والقس جبرائيل مدبر يعالج غصن البان. - المجد لله يا أبتي.
فالتفت القس جبرائيل مذعورا وإذ شاهد القس بولس تنفس الصعداء: جئت في وقتك، هذه الابنة مريم ابنتنا، لقد أغمي عليها من شدة التعب، ساعدني لنعيد إليها رشدها، تقدم، افرك رجليها.
فدنا القس بولس ينظر إلى وجهها فشاهد الذخيرة على صدرها، فتأملها فإذا هي بعينها تلك الذخيرة التي أعطاها إلى أمها سارة يوم كانت حاملا، فقبلها وقبل مريم هاتفا: بنتي! بنتي! سبحانك اللهم، ارحمني يا ربي وارحمها.
جمد الدم في عروق القس جبرائيل ووقف كالشبح بين البنت والراهب محملقا: وهل أنت الأخ إيلياس؟! - نعم أنا إيلياس البلان، أنا هو.
Shafi da ba'a sani ba