فقالت غصن البان ضاحكة: والحمد لله على سلامتي، خطر في بالي المثل السائر، ولكنه لا يليق بذا المقام، فلا بأس إن تقارضتم الثناء باسمي على شرط ألا تشاركوني به، لنشرب سر مصر وسوريا.
فقالت نجيب مراد: وفلسطين أيضا.
فتجهمته غصن البان وقالت على الفور: لا أشرك مع البلاد المقدسة بلادا. - الحق معك، ولكن الفن يا غصن البان يتعدى مثل الدين البلاد، ومصر بلاد الفن قديما وحديثا، سر سوريا ومصر.
ثم قال نجيب مراد ليظهر للشاعر أنه أسبق إلى قلب الراقصة الشهيرة منه: أتذكرين يوم شربنا هذا السر في باريس؟
فاغتاظت غصن البان ولم تكترث بما قال، وفي تلك الآونة قرب من المائدة رجل نحيل الجسم عدل القامة يناهز الأربعين من العمر، حنطي اللون غائر العينين في وجهه أثر الجدري وأثار القصف والتهتك، وهو يلبس عوينة كأكابر الإنجليز ويميل بطربوشه حتى حاجبه الأيمن فيكاد والزجاجة يتماسان، فأبصرته غصن البان قادما إليها فبادرته وهي جالسة بالسلام، ومدت إليه يدها فقبلها. - أهلا بسعادة الباشا، جئت بوقتك لتخلصني من حجر الرحى، أكاد أسحق بين حب سوريا وحب مصر، بل بين التجمل والمسايرة، وأنت لا تجامل حتى غصن البان، ولا عجب فأنا لا أحبك ولكني أحب حديثك، تفضل، اجلس بيني وبين الشاعر، وأجرني منه.
ثم قدمت إليه جليسيها وقالت تعرفهما به: صاحب السعادتين الحائز على الرتبتين المصرية والإنكليزية، بل ولي النعمتين - نعمة الملك ونعمة الأمير - سر همت باشا.
فأحنى سر همت رأسه باسما ابتسامة الازدراء ولسان حاله يقول متهكما: علمت شيئا وفاتت عنك أشياء، ثم أمر الخادم أن يحضر زجاجة من الشمبانيا. وقال يخاطب غصن البان: هل سررت في الإقامة بحلوان؟ - كيف لا وجئت بهذا السعال المكرب؟ أرجوك ألا تذكرني بها، سر همت باشا يا نجيب أفندي عالم أسر ... ما هي الكلمة؟ - أثري. - أثري، أثري، أي إنه لا يهتم لغير الماضي؛ الماضي القديم البعيد، يحفر القبور، ويغازل الموميات. - أخطأت، ننقل القبور إلى القصور، فإنها أجدر بميت كريم من حي لئيم، ونغازل الخالدات الذكر لا الموميات؛ الخالدات الذكر عرائس الحب، لا يهمني من الحاضر غيرهن، والبخور نحرقه في هياكلهن، والخمر نشرب على ذكرهن، وما سوى الحب والخمر هلس كله بهلس، الاحتلال الإنكليزي، والحزب الوطني، ومشائخ الأزهر، ومفتي الديار المصرية، وتحرير المرأة، والبالو الخديوية، ورقص غص البان هذه كلها تدل على أمر واحد هام، وهو أن الناس هربا من فراغ في قلوبهم وظلام في عقولهم وعقم في نفوسهم؛ يتلهون بالخزعبلات السياسية والاجتماعية وبالتخرفات الدينية والفنية، ترقص غصن البان فتعبث بالعقول والقلوب، يخطب مصطفى كامل فيطرب الناس، يتفلسف الشيخ محمد عبده فيسلينا، يعظ شيخ الأزهر فيضحكنا، تصدر أوامر النظارة الخارجية من «دون ستريت» إلى المعتمد الإنجليزي فتبعث بنا إلى الحمام، يصدر قاسم أمين كتابا فترتفع أسعار «النسخات» في البلد، صل على النبي! اكتشفت أمس اكتشافا يزعزع اعتقاد هؤلاء النوابغ كلهم لو أنهم يعلمون، مددت يدي أمس إلى صدر ملكة من ملكات الفراعنة ...
فقاطعته غصن البان هاتفة: يا للفضيحة ويا للعار! - أي والله، جسارة هي بل سوء أدب مني، ولكن العلم في بعض الأحايين فضولي، مددت يدي إلى صدر الملكة فلقيت فيه صفيحة من البردي كتبت فيها هذه الكلمات: «سأوافيك غدا نصف الليل إلى البستان تحت شباك البهو الكبير.» - الله الله! يا دائم يا كريم ! - نعم، كل ما سوى الحب يا ست غصن البان هلس بهلس، كله يزول «سأوافيك نصف الليل إلى البستان تحت شباك البهو الكبير.» لعمري إن في ذي الرسالة سر الحياة كلها، ولكن فيها ما هو أغرب من «سأوافيك» فيها اسم علمت بعد البحث والتنقيب أنه اسم الكاهن الأكبر؛ كاهن الهيكل الملوكي.
ورفع النظارة إلى عينه يثبتها تحت حاجبه وهو ينظر إلى غصن البان كأنه يسائلها رأيها، فقالت: وهل وافته الملكة؟ - وافته إلى البستان ورافقته إلى قدس الأقداس في الهيكل، وماتت في سريره وأوصت أن تدفن الرسالة معها وفي صدرها، إنما هذه الخالدات الذكر، تزول الأديان والأمم ولا يزول الحب، تتغلب العادات والسياسات وتتغير الأزياء والأسماء والحب هو هو - خالد أزلي أبدي، والعاقل لا يهتم في الحاضر لسواه. - وهل عثرت يا سر همت على مومية راقصة من راقصات الزمان القديم، أو على أثر من آثار الرقص في الصور والتماثيل؟ - عندنا كثير منها. - بالله حدثنا بها. - غدا أرافقك إذا شئت إلى المتحف المصري وأطلعك على آثار الرقص وصور الراقصات والراقصين؛ لأن الكهان في قديم الزمان كانوا يرقصون والعذارى في الهياكل ...
فقاطعه مصباح أفندي قائلا: ويدعونهن بعدئذ إلى قدس الأقداس؟! لله من الكهان! - ولكن رقصهم جميل يشابه في بعض حركاته رقص غصن البان.
Shafi da ba'a sani ba